في قطاع غزة .. يتساوى الموت مع الحياة


في قطاع غزة المحاصر، لم يعد الناس يفرقون بين الموت والحياة، كلاهما أصبح مرادفا للعذاب، وكأن البقاء قيد الحياة ليس إلا وجها آخر للفناء.
على طول شارع الرشيد الساحلي، الذي تحول إلى ممر نزوح جماعي، تسير حشود من العائلات بأجساد منهكة وقلوب مثقلة بالخوف.
الأطفال يجرون حقائب مدرسية فارغة حُشيت بما تبقى من ملابس وحاجيات بسيطة، والآباء يدفعون عربات مهترئة محملة ببطانيات وخبز يابس، نساء مسنات يجررن أقدامهن ببطء، والدموع تفيض من عيونهن وكأنها إعلان وداع مؤجل للحياة.
تقول أم أحمد عاشور من مدينة غزة وهي تحتضن طفلتها الصغيرة وقد غطى الغبار ثيابها "لم أعد أعرف أي خوف أشد قسوة.. أن أفقد أولادي تحت القصف، أم أن يتألمون بسبب المجهول الذي نتوجه اليه".
اقرأ أيضاً
رسالة من الشرق الأوسط: غزة .. وطني الممزق وآمال لم تتحقق
”الميراث و المرأة ” صراع التقاليد مع الشريعة والقانون
عودة ”حديث القاهرة” في موسم جديد على قناة ”القاهرة والناس”.. الليلة
"البيئة بين الأمل والتحديات".. حوار مع وفيق نصير عضو البرلمان العالمي للبيئة
”معبد كلابشة” جوهرة النوبة التي نجت من الغرق
نشأت عبد العليم: تصويت الأمم المتحدة لصالح حل الدولتين لحظة تاريخية تُجدد الأمل في السلام
”القومي لذوي الإعاقة” يشارك في إعداد الدليل الموحّد لحماية الأطفال المعرضين للخطر
كجوك: الموازنة ليست مجرد خطة مالية بل رؤية مجتمعية تنطلق من نبض المواطن
وزير الاتصالات يفتتح معرض للطوابع البريدية والتاريخ البريدى بمركز إبداع مصر الرقمية – قصر السلطان حسين كامل
ختام ناجح للدورة الرابعة والثلاثين من معرض ومؤتمر ”كومكس عُمان 2025”: أكثر من 150 صفقة و430 جهة مشاركة
شراكة استراتيجية بين «تطوير التعليم بالوزراء» و«بلاك دايموند» لرفع كفاءة العاملين بالقطاع العقاري
دكتورة دينا المصري تكتب.. الرجولة راحت فين
وتضيف بينما يختنق صوتها من الالم "منذ أسابيع لم ننم بسبب القصف المتواصل، ومع ذلك ظل في قلوبنا أمل بأن تنجح المفاوضات بين حماس وإسرائيل في إنهاء هذا الكابوس، لكن للأسف، يبدو أن هذا الأمل يتلاشى".
وتضيف بصوت متهدج "نحن نسير نحو المجهول وهذا هو الموت الحقيقي بالنسبة لي".
حالها كحال مئات الآلاف من العائلات الفلسطينية في قطاع غزة، نزحت أم أحمد إلى جنوب قطاع غزة، وتستذكر بحسرة "في نزوحنا الأول مع بداية الحرب ذقنا كل صنوف الذل، كنا نموت كل يوم ألف مرة، عدت إلى غزة بعد اتفاق وقف إطلاق النار مطلع هذا العام وأقسمت ألا أعيد رحلة النزوح مرة أخرى، لكنني اليوم أسير على نفس الطريق، مكسورة بلا حول ولا قوة".
قريبا من مكانها، وقف جارها خالد أبو عرمانة (65 عاما) يحدق في الأفق حيث تحاصر الغبار السماء، تردد كلمات أم أحمد كما لو أنها صدى لعذابه هو نفسه.
ويقول أبو عرمانة بصوتٍ متهدج وهو يمسك بيد حفيده الصغيرة التي ترتعش من الخوف "سمعت قولها نحن نموت كل يوم ألف مرة".
ويضيف "وأنا أتذكر نزوحنا الأول، عدت أنا أيضًا إلى غزة بعد وقف إطلاق النار في فبراير الماضي، ظننت أننا سنجد بقايا حياة نرمم فيها ما تبقى من كرامتنا، لكننا لم نلق إلا مزيدا من الوجع".
ويتابع "وعدنا أنفسنا ألا نعود إلى شوارع مثل هذه؟ وعدنا أولادنا وأحفادنا اننا سنعيد بناء منازلنا لكن الآن، كل تلك الوعود تبددت".
واستطرد بينما يده على قلبه "حين تسمع أما تقول إن المجهول هو موت حقيقي، تعرف أن الأمر أكبر من خوف مؤقت، الخوف هنا يمتد إلى غد لا وجود له. كلما سقط صاروخ، أتذكر وجوه الجيران الذين رحلوا بالأمس؛ أسمع ضحكات أطفالهم في رنين الذكريات ثم يطويها الصمت".
وأضاف بصوت أشد ضعفا "نحن لسنا مجرد أرقام أو صور تعرض على الشاشات، نحن بشر لنا أسماء، لأطفالنا أحلام، ولذكرياتنا جذور".
ويواصل الجيش الاسرائيلي من تكثيف غاراته الجوية على مدينة غزة حيث دمر أبراجا وعمارات سكنية بارزة في مدينة غزة، ما خلف مئات العائلات بلا مأوى، وحفر عميقة في الأرض تروي حجم الدمار.
وأعلن الجيش أنه سيواصل استهداف "أبراج متعددة الطوابق" خلال الأيام المقبلة، بزعم استخدامها من قبل حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وهو ما تنفيه الحركة.
وتيرة القصف على المباني السكنية ازدادت بشكل لافت، في مسعى لإفراغ الأحياء وإجبار السكان على النزوح، وفق ما أفاد به شهود عيان ومسؤولون محليون.
وألقى الجيش الإسرائيلي منشورات ورقية على غزة، إلى جانب مكالمات هاتفية تحذيرية للسكان تحثهم على المغادرة، مع تحديد "مناطق إنسانية" في وسط وجنوب القطاع.
وفي المقابل، يقول الناطق باسم الدفاع المدني في غزة محمود بصل، إن "الدمار خلال أقل من أسبوع فاق كل تصور".
ويضيف أن أكثر من 50 ألف مواطن أصبحوا بلا مأوى، فيما تعيش آلاف العائلات في العراء أو داخل مدارس مدمرة جزئيا.
ويوضح بصل أن الجيش الإسرائيلي دمر خلال أيام 12 بناية سكنية يزيد ارتفاعها عن سبعة طوابق وتضم نحو 500 شقة، مما أدى إلى تشريد أكثر من عشرة آلاف مواطن، إلى جانب قصف أكثر من 120 بناية أخرى متوسطة الارتفاع وتشريد آلاف إضافية.
كما تضررت مئات المباني بشكل جزئي، وفقد نحو 30 ألف شخص مساكنهم، على حد قوله.
كما طال القصف عشر مدارس وخمسة مساجد، بينما دُمرت أكثر من 600 خيمة كانت تؤوي نازحين.
ويضيف بصل "نوجه نداء عاجلا للأمم المتحدة والمجتمع الدولي للتدخل الفوري لوقف العدوان وحماية المدنيين، الوضع كارثي بكل المقاييس".
ورغم اشتداد القصف الإسرائيلي والظروف المأساوية، ما زال البعض عالقا في مدينة غزة تحت القصف حيث تتضاعف المعاناة.
وياسر أبو شعبان شاب في العشرينيات من عمره من مدينة غزة "ننام على أصوات الانفجارات ونستيقظ على أنين الجرحى، لم أعد أخاف من الموت، بل أخاف أن أستيقظ وأجد نفسي الناجي الوحيد من عائلتي".
ويضيف "في غزة لم نعد نفرق بين أن نكون أحياء أو أمواتا. الحياة هنا موت بطيء، والموت صار أرحم من هذا العذاب".
وفي حصيلة جديدة، أفادت مصادر طبية في غزة بمقتل ما لا يقل عن 53 فلسطينيا خلال الساعات الماضية جراء الهجمات الإسرائيلية، بينهم ضحايا انتشلوا من تحت الأنقاض.
وفي السياق ذاته، قالت وزارة الصحة إن عدد القتلى ارتفع إلى 64 ألفا و756 شخصا منذ السابع من أكتوبر 2023، بينما بلغ عدد الجرحى أكثر من 164 ألفا.
وسجلت المستشفيات أيضا حالتي وفاة بسبب الجوع وسوء التغذية خلال اليوم الماضي، بينهما طفل، ليرتفع عدد الوفيات نتيجة المجاعة إلى 413، بينهم 143 طفلا، منذ إعلان مرحلة "المجاعة" في غزة.
وبين الركام، يظل المدنيون يتشبثون بأمل واهن في النجاة، لكن كما تقول أم أحمد وهي تمسح دموع طفلتها "في غزة.. لا فرق بين الموت والحياة، فكلاهما أصبح وجها واحدا للمعاناة".■