مالك السعيد المحامي يكتب: وقاية ذكية وعدالة ناجزة.. رؤية قانونبة لتقليل حوادث العمل وضمان الحصول على التعويض المناسب
تتصاعد حوادث العمل في مصر بوصفها أحد أخطر التحديات الاجتماعية والقانونية المرتبطة بسوق العمل، خصوصًا في قطاعات الصناعة والبناء والتشييد والنقل، حيث تشير تقديرات حكومية ونقابية متقاطعة إلى تسجيل مئات الآلاف من إصابات العمل سنويًا، بينما لا يُعلن رسميًا سوى عن جزء محدود منها. وتُقدّر بعض الدراسات العمالية أن عدد إصابات العمل الفعلية قد يتجاوز 700 ألف إصابة سنويًا، في حين لا تتجاوز الحالات المقيدة رسميًا لدى جهات التأمينات الاجتماعية نصف هذا الرقم، ما يعني أن نسبة تتراوح بين 40 و50 في المئة من الإصابات تظل خارج الإطار القانوني، إما لعدم الإبلاغ أو لغياب التأمين من الأساس.
البيانات القطاعية تكشف أن قطاع التشييد والبناء يتصدر المشهد بنسبة تتراوح بين 35 و40 في المئة من إجمالي إصابات العمل، يليه قطاع الصناعات التحويلية بنسبة تقترب من 30 في المئة، ثم قطاع النقل والخدمات اللوجستية بنسبة تتراوح بين 10 و15 في المئة، بينما تتوزع النسبة المتبقية على الزراعة والخدمات والورش الحرفية. وتُظهر الإحصاءات أن الحوادث الأكثر شيوعًا تشمل السقوط من علو، والكسور، وبتر الأطراف، والحروق، والصعق الكهربائي، وهي إصابات ترتبط في الغالب بضعف إجراءات السلامة المهنية أو غيابها تمامًا.
رغم خطورة هذه الأرقام، فإن الإطار التشريعي المصري يوفّر حماية قانونية واسعة للعامل المصاب، إذ يُعرّف القانون إصابة العمل تعريفًا شاملًا لا يقتصر على الحادث المباشر داخل موقع العمل، بل يمتد ليشمل الحوادث التي تقع بسبب العمل أو أثناء الانتقال من وإليه عبر الطريق المعتاد، إضافة إلى الأمراض المهنية المعتمدة. ويكفل القانون للعامل المصاب حق العلاج الكامل على نفقة التأمينات الاجتماعية دون حد أقصى للتكلفة، فضلًا عن تعويض أجر كامل يعادل 100 في المئة من أجر الاشتراك التأميني طوال فترة العجز المؤقت، وهي نسبة تفوق ما يُصرف في حالات المرض غير المهني.
غير أن الإشكالية الجوهرية تبدأ من لحظة وقوع الإصابة، حيث تشير تقديرات قانونية إلى أن أكثر من 60 في المئة من العمال المصابين لا يتخذون الإجراءات القانونية السليمة في الساعات الأولى بعد الحادث، وهو ما يضعف موقفهم لاحقًا أمام جهات التحقيق أو التأمين. فإثبات إصابة العمل يتطلب الإبلاغ الفوري لصاحب العمل، وتحرير محضر رسمي يثبت الواقعة وتوقيتها، إلى جانب تقرير طبي معتمد يحدد طبيعة الإصابة وسببها وتاريخ حدوثها. ويكشف الواقع القضائي أن نسبة كبيرة من دعاوى التعويض تُرفض أو تُحفظ بسبب قصور شكلي في الإثبات، وليس بسبب انتفاء الحق.
عند ثبوت الإصابة، تتنوع الحقوق المالية بحسب جسامة الضرر، حيث يُصرف للعامل المصاب بعجز جزئي مستديم تعويض يُحتسب كنسبة من أجره وفق جداول رسمية لنسب العجز، وقد يصل هذا التعويض في بعض الحالات إلى ما يعادل أجر عدة سنوات دفعة واحدة. أما في حالات العجز الكلي المستديم، فيستحق العامل معاشًا لا يقل عن 80 في المئة من أجر الاشتراك، ويرتفع إلى 100 في المئة إذا ثبت احتياجه لمرافق دائم. وتشير تقديرات داخل منظومة التأمينات إلى أن متوسط المعاشات والتعويضات المصروفة سنويًا عن إصابات العمل يقدّر بمليارات الجنيهات، في ظل تسجيل مئات الآلاف من الحالات بين عجز مؤقت ومستديم ووفاة.
ورغم ذلك، تظل الفجوة الأكبر مرتبطة بسوق العمل غير الرسمي، الذي تشير تقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أنه يضم ما بين 45 و50 في المئة من إجمالي قوة العمل في مصر، أي ما يزيد على 14 مليون عامل، معظمهم خارج مظلة التأمين الاجتماعي. هذه الفئة تتحمل النصيب الأكبر من المخاطر دون أي حماية حقيقية، حيث تُظهر دراسات ميدانية أن احتمالات التعرض لإصابة عمل في القطاع غير الرسمي تزيد بنحو الضعف مقارنة بالقطاع الرسمي، في ظل غياب التدريب، وعدم استخدام معدات الوقاية، وانعدام الرقابة.
دور صاحب العمل في هذه المنظومة يظل محوريًا، إذ يُلزمه القانون بتوفير بيئة عمل آمنة، وسداد اشتراكات التأمين، والإبلاغ عن الحوادث، غير أن الواقع العملي يكشف عن نسب مرتفعة من التهرب، خاصة في الورش الصغيرة والمقاولات من الباطن. وتشير تقديرات قانونية إلى أن ما بين 15 و20 في المئة من القضايا العمالية المنظورة سنويًا أمام المحاكم تتعلق بإصابات العمل، ويتركز جزء كبير منها حول إنكار علاقة العمل أو التشكيك في زمن وقوع الإصابة.
في النهاية، لا تعكس أزمة حوادث العمل قصورًا تشريعيًا بقدر ما تكشف خللًا في الوعي والتطبيق والرقابة. فالعامل الذي يجهل حقه في الإبلاغ والتوثيق والعلاج والتعويض، يظل الطرف الأضعف في معادلة قانونية يفترض أنها وُضعت لحمايته. ومع استمرار ارتفاع معدلات الحوادث في قطاعات عالية الخطورة، يصبح تعزيز الوعي القانوني، وتوسيع مظلة التأمين الاجتماعي، وتشديد التفتيش على مواقع العمل، مسألة عدالة اجتماعية قبل أن تكون التزامًا قانونيًا، حتى لا تتحول إصابة العمل من واقعة عارضة إلى مسار دائم للفقر والإقصاء.
يمكن تحويل أزمة حوادث العمل من ملف مهمل إلى مبادرة قومية شاملة عبر حزمة حلول عملية قابلة للتنفيذ، تبدأ بإطلاق برنامج وطني إلزامي لتأمين جميع العمال في القطاعات عالية الخطورة، وعلى رأسها البناء والصناعة والنقل، من خلال ربط إصدار تراخيص الشركات والمقاولين وسلاسل التوريد بسداد اشتراكات التأمينات الاجتماعية، بما يتيح إدخال ملايين العمال غير الرسميين تدريجيًا تحت المظلة القانونية خلال فترة زمنية محددة لا تتجاوز ثلاث إلى خمس سنوات. ويواكب ذلك إنشاء منصة رقمية موحدة للإبلاغ الفوري عن إصابات العمل، تتيح تسجيل الواقعة خلال ساعات عبر الهاتف المحمول، وربطها تلقائيًا بجهات الشرطة والتأمينات والمستشفيات الحكومية.
بالنهابة ..فإن هذه الإجراءات تقلل فقدان الحقوق الناتج عن التأخير أو التعقيد الإجرائي. كما تقوم المبادرة على تعميم برامج تدريب إلزامية في السلامة والصحة المهنية بحد أدنى سنوي للعاملين وأصحاب الأعمال، مع ربط اجتيازها بتجديد رخص التشغيل، وتشير تجارب دولية إلى أن التدريب المنتظم خفّض معدلات الإصابات بنسبة تراوحت بين 25 و40 في المئة خلال خمس سنوات. وتستكمل المبادرة بتفعيل دور التفتيش العمالي عبر مضاعفة أعداد المفتشين واستخدام أدوات رقمية للرصد، وفرض غرامات تصاعدية رادعة على المنشآت المخالفة، مع تخصيص صندوق وطني لتعويض مصابي العمل غير المؤمن عليهم مؤقتًا، يُموَّل من الغرامات ورسوم التراخيص، لضمان عدم ترك أي عامل مصاب دون علاج أو دخل، بما يحول حماية العمال من نصوص قانونية جامدة إلى سياسة عامة فعالة ذات أثر اجتماعي واقتصادي مباشر.




















العدد الجديد من جريدة الميدان «1027»
العدد الجديد من جريدة الميدان «1022»
غدًا العدد الجديد من «جريدة الميدان» في الأسواق
العدد الجديد من جريدة الميدان «983»
الكاتب الصحفي سيد دويدار ينعى والدة آل السيسي
الميدان تنعى ببالغ الحزن الحاج نور أبوسمرة المعداوي وتتقدم بخالص العزاء لأسرة...
الميدان ينعي ببالغ الحزن عائلتي مرجان وأبو غانم في وفاة والده الأستاذ...
بالتفاصيل...طعن على الانتخابات البرلمانيه ٢٠٢٥ امام المحكمه الادارية العليا