خالد مصطفى يكتب: الإمام الأكبر ضمير الأمة

في زمن التبست فيه الرؤى وتكاثرت فيه التيارات وارتفعت فيه رايات التغريب والتشكيك بعث الله للأزهر الشريف إماماً فريداً جمع بين عمق العقيدة ورحابة العقل وصفاء الروح إنه
عبد الحليم محمود، الإمام الأكبر والفيلسوف الأزهري والداعية الرباني الذي أنار درب الفكر الإسلامي في القرن العشرين إن الإمام الأكبر
هو أحد أبرز شيوخ الأزهر في العصر الحديث وعُرف بعلمه الغزير وفكره المتوازن ودعوته المستنيرة التي جمعت بين الأصالة والمعاصرة وكان من الدعاة القلائل الذين جمعوا بين الفلسفة الإسلامية والتصوف الصحيح والانفتاح على الحضارة الحديثة دون تنازل عن الثوابت الإسلامية وُلد عبد الحليم محمود محمد بقرية أبو أحمد مركز بلبيس محافظة الشرقية فى الثانى عشر من مايو عام 1910
في بيت عامر بالقرآن والفقه وسط بيئة ريفية متدينة نهل منها أول دروس الإيمان لم تكن بدايته كأي بداية فقد حفظ القرآن صغيراً وتشبّع بروح الإسلام قبل أن يدرس علومه
سلك الإمام درب العلم في الأزهر الشريف فى سن مبكرة وتدرج فى تعليمه حتى نال شهادة العالمية ثم ابتُعث إلى فرنسا فكان أول من جمع بين العمامة الأزهرية والعقل الفلسفي الغربي حيث نال الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون برسالة عن أبو بكر بن طفيل الفيلسوف الأندلسي مما مكّنه من محاورة الغرب بلغته ودحض شبهاته بفكره
وكانت رسالته عن الحكماء المسلمين
عُيّن بعدها عضواً في هيئة كبار العلماء كما شغل منصب وزير الأوقاف ثم شيخاً للأزهر الشريف من عام 1973م حتى وفاته عام 1978م
ساهم فضيلة الإمام فى تطوير التعليم بالأزهر وسعى لربط الأزهر بالحياة المعاصرة ووسّع التعليم الأزهري ليشمل الكليات العملية مثل الطب والهندسة من خلال الجامعة التى أصبحت منارة علمية عالمية إمتازت دعوته للتصوف الإسلامي النقى لأنه كان من أعلام الفكر الصوفي وكتب عن الحب الإلهي والزهد والصدق والولاية رافعاً شعار العودة إلى الروح كطريق للإصلاح كما كان له طريقاً واضحاً فى مواجه التيارات المادية والفكر الإلحادي المنتشر
في عصره بحجج عقلية وفلسفية ودافع
عن الإسلام بالعلم والفكر الراقي وكان فضيلة الإمام اول من نادى بتطبيق الشريعة الإسلامية في مصر وأعلنها صراحة أمام المسؤولين مما جعله رمزاً لمواقف العلماء الملتزمين بالحق
حينما تولى الإمام الأكبر مشيخة الأزهر عام 1973م لم يكن مجرد إداري يدير مؤسسة
بل كان قائداً لمشروع إصلاحي شامل حيث أعاد للأزهر مكانته وهيبته ودعم دمج العلوم العصرية في كل مناهجه وطالب بوضوح بـتطبيق الشريعة في حياة الأمة وكان مدافعاً شجاعا عن الهوية الإسلامية في وجه التغريب والتشويه لم يكن التصوف عند الإمام الأكبر خيالاً أو دروشة بل كان عودة إلى الصفاء الأول إلى حب الله وصدق التوجه إليه دعا إلى تصوف علمي نقي يُحيي القلوب دون أن يُغيب العقول كتب عن الحب الإلهي بأسلوب يمزج بين جمال العبارة وعمق الفكرة حيث قضى الإمام
عبد الحليم محمود حياته جسراً بين الماضي والحاضر بين الشرق والغرب بين العقل والروح جمع ما ظنه الناس متناقضاً مابين الفلسفة والإيمان والتصوف والعقل والأصالة والمعاصرة
إنه ليس مجرد شيخ أزهر بل كان رائداً ونهضة فكرية روحية ما أحوج الأمة اليوم إلى أن تُعيد قراءته وتستلهم نوره فهو الرجل الذي أعاد للأزهر روحه وللإسلام هيبته وللقلوب نورها وصفاءها كان نوراً ربانياً في عالم ضجّ بالصخب وغاب فيه صوت الحكمة وانحسر فيه النور فقط بين أمواج المادية والإلحاد علا هذه النور الربانى من أعماق الريف المصري يحمل على كتفيه تراث الأزهر وعقل الفلاسفة وقلب الأولياء لم يكن إنساناً عادياً بل كان ظاهرة في تاريخ البشرية وعلامة مضيئة في سماء الفكر الإسلامي الحديث إنه الإمام الأكبر عبد الحليم محمود الرجل الذي إذا نطق صمت الجدل وإذا كتب سكت الضجيج لم يكن فضيلة الإمام فيلسوفاً منقطعاً عن الدين بل كان فقيهاً يناقش فولتير وديكارت بروح الإمام الغزالي وابن رشد
لم يذهب إلى فرنسا ليُنبهر بالأضواء الباريسية بل ذهب ليتعلم ويفهم ليعود أقوى وليثبت للعالم أن الإسلام لا يخشى الفلسفة
بل يسمو بها لم يكن الدكتور عبد الحليم محمود أبداً مجرد شيخاً للأزهر بل كان ضميراً ناطقاً باسم الأمة وروحاً تسري في أوصال الأزهر وصوتاً صافياً لله لا للحاكم أو للسلطة
لقد آمن أن الدين لا يحتاج إلى من يُدافع عنه بلسان خائف بل إلى من يُعلنه بعقل راجح
وقلب محب وروح سامية
كتب الإمام الأكبر ما يزيد عن 60 كتاباً تنوعت
بين الفلسفة والتصوف والدعوة كان من
أبرزها أوروبا والإسلام – حوار حضاري عميق - الفتوحات الإلهية في السيرة النبوية –
سيرة تنبض بالإيمان والروح - بين الدين والفلسفة – جسر متين بين العقل والنقد التوحيد والوجود – رحلة في أعماق الذات والخلق - كتبه لم تكن فقط للقراءة بل
للتطهر الفكري والارتقاء القلبي
كان قلمه حاداً كالسيف حين يدافع عن الحق ورقيقاً كنسيم الفجر حين يُخاطب الروح
في 17 أكتوبر 1978 ارتقى الإمام إلى جوار ربه جسداً فقط أما فكره فباق في العقول وصوته حيّ في ضمائر الأحرار وصورته لا تغيب عن صفحات النور في تاريخ الأزهر الشريف
إنه الإمام العالم الذي يليق أن نقف أمامه
لا بوقفة الحزن على رحيله بل بوقفة الإكبار
لما تركه والاقتداء بما قدّمه طوال تاريخ ممتلئ بالعطاء لا ننسى أبداً أنه من حلُم برسول الله
قبل حرب أكتوبر حيث بلغ الرئيس الراحل
أنور السادات بأن جُند الله سوف يعبرون قناة السويس مع القوات المسلحة المصرية فى معركة الشرف والكرامة رحل إمامنا الفاضل وشيخنا الكبير ولكن ذكراه باقية فى الوجدان حيث يقدم ابن شقيقته محمود صالح ملحمة أسبوعية من العطاء المتواصل بمسجد فضيلة الإمام بقرية السلام بمحافظة الشرقية يحضرها العلماء والمحبين والمريدين ويحرص على الحضور لفيف كبير من الطلبة المبتعثين بالأزهر الشريف من مختلف دول العالم رحم الله سيدنا الإمام الأكبر ضمير الأمة وقائد ثورة التنوير بالأزهر الشريف