”قصر المنتزه” حكايات من الزمن الجميل تتجلى في كل حجر
قصر المنتزه
إيهابحبلص
على الساحل الشمالي لمصر، حيث تتعانق أمواج البحر الأبيض المتوسط مع نسيم الإسكندرية العليل، يقف "قصر المنتزه" شامخًا، ليس مجرد بناء، بل هو سجل حي لتاريخ مصر الحديث، وكنز معماري يروي تفاصيل حقبة ملكية ازدهرت فيها الفخامة والجمال. إن زيارة هذا القصر الأثري ليست مجرد نزهة، بل هي رحلة عبر الزمن، تكشف عن عظمة التصميم ودقة التفاصيل، وتاريخ مليء بالحكايات الملكية.
نشأة ملكية ورؤية استراتيجية:
تعود قصة قصر المنتزه إلى عام 1892، عندما أدرك الخديوي عباس حلمي الثاني الحاجة إلى مصيف ملكي جديد بعيدًا عن صخب القاهرة، يتميز بمناخ معتدل وجمال طبيعي أخاذ. وقع اختيار الخديوي على هذا الموقع الاستراتيجي شرق الإسكندرية، المطل مباشرة على خليج المنتزه، ليبدأ بذلك فصلاً جديدًا في تاريخ العمارة الملكية المصرية. تم تصميم القصر بأسلوب يجمع بين الفخامة الأوروبية المعاصرة في ذلك الوقت، وخاصة الطراز الفلورنسي، مع لمسات من العمارة الإسلامية، مما أضفى عليه طابعًا فريدًا ومميزًا.
روائع معمارية وتفاصيل أثرية آسرة:
يتكون مجمع قصر المنتزه من عدة مبانٍ رئيسية، لكل منها حكايته وتصميمه الفريد:
* قصر السلاملك: يُعد هذا القصر جوهرة معمارية، وقد بني عام 1892 ليكون مقرًا لاستقبال الضيوف الرسميين وكبار الزوار. يتسم تصميم السلاملك بالفخامة والدقة المتناهية، حيث تزين جدرانه نقوش وزخارف جبسية بديعة، وسقوف عالية مزخرفة بعناية فائقة. تعكس القاعات الفسيحة المخصصة للاستقبال طراز عصر النهضة الأوروبي، مع استخدام الرخام الفاخر والأخشاب الثمينة في الأرضيات والأبواب. يمكن ملاحظة التفاصيل الأثرية في كل زاوية، من المقابض البرونزية المنقوشة إلى الثريات الكريستالية الضخمة التي كانت تضيء المكان بالفخامة.
* قصر الحرملك (قصر الملك فاروق): بُني هذا القصر في ثلاثينيات القرن الماضي ليكون المقر الصيفي للملك فاروق وعائلته. يتميز تصميمه بجمع أكثر وضوحًا بين الطراز الأوروبي الحديث والطراز الإسلامي، مع لمسات من فن الآرت ديكو الذي كان شائعًا في تلك الفترة.
تفاصيله الأثرية تشمل واجهاته المطلة على البحر والتي تضم شرفات واسعة تتيح إطلالات بانورامية خلابة، بالإضافة إلى النوافذ الزجاجية الملونة والنقوش الجبسية التي تزين الغرف الداخلية، والتي كانت تعكس ذوق الملك الخاص وحبه للفن. كان يضم غرف نوم ملكية، وصالونات فسيحة، ومكتبة، وقاعات للطعام، صُممت جميعها لتوفير أقصى درجات الراحة والفخامة.
* برج الساعة: تحفة معمارية أخرى تقع في قلب المنتزه. يجسد هذا البرج الأنيق طراز أبراج الساعات الأوروبية، ويتميز بتفاصيله الزخرفية الدقيقة التي تضفي عليه سحرًا خاصًا. لا يزال البرج شاهدًا على الوقت، ويُعد من أبرز معالم المنتزه التي يلتقط عندها الزوار الصور التذكارية.
* كباري المنتزه الأثرية: تربط هذه الكباري الحجرية الأنيقة أجزاء المنتزه المختلفة، وتتميز بتصميمها الكلاسيكي الذي يضيف إلى جمال المشهد العام. وقد صُممت لتمتزج بانسجام مع الطبيعة المحيطة، وتوفر مسارات للمشاة للاستمتاع بجمال الحدائق والوصول إلى شاطئ الخليج.
* المساجد والكنائس: يضم المنتزه أيضًا مسجدًا تاريخيًا صغيرًا، بالإضافة إلى كنيسة أثرية، مما يعكس التسامح الديني والتنوع الثقافي الذي ميز حقبة بناء القصر. هذه المباني الصغيرة تحمل تفاصيل معمارية فريدة وتضيف بعدًا روحيًا للمكان.
الحدائق الملكية جنة على الأرض:
لا تكتمل حكاية قصر المنتزه دون ذكر حدائقه الشاسعة التي تمتد على مساحة تزيد عن 370 فدانًا. هذه الحدائق ليست مجرد مساحات خضراء، بل هي تحفة تنسيقية، صُممت لتضم أنواعًا نادرة من الأشجار والنباتات التي تم جلبها من مختلف أنحاء العالم. تتخلل الحدائق ممرات مرصوفة بعناية، ومجموعات من النوافير والشلالات الصناعية، ومجاري مائية صغيرة، وتماثيل رخامية، مما يجعل منها متحفًا طبيعيًا مفتوحًا. وقد تم الاهتمام بكل تفصيل في هذه الحدائق لتكون امتداداًطبيعياً لفخامة القصر.
المنتزه اليوم شاهد على العصر:
بعد ثورة يوليو 1952، تحول قصر المنتزه من ملكية خاصة إلى منتزه عام، ليصبح متاحًا لجميع المصريين. واليوم، لا يزال المنتزه يحافظ على مكانته كواحد من أهم المعالم الأثرية والسياحية في الإسكندرية. إنه وجهة للباحثين عن الهدوء والجمال، وعشاق التاريخ والعمارة. كل زاوية في المنتزه تحكي قصة، وكل حجر فيه يحمل عبق الماضي، مما يجعله شاهدًا خالدًا على تاريخ عريق، وتفاصيل أثرية لا تزال تبهر الناظرين. إن زيارة المنتزه هي دعوة للتأمل في عظمة ماضي مصر، وجمال كنوزها المعمارية.