”فنار الإسكندرية ” من عجائب الدنيا السبع إلى أسطورة خالدة
فنار الإسكندرية
إيهابحبلص
في قلب مدينة الإسكندرية، وعلى جزيرة فاروس التاريخية، وقف شامخاً ذات يوم واحد من أعظم إنجازات العمارة والهندسة في العالم القديم: فنار الإسكندرية العظيم. لم يكن مجرد بناء يضيء الطريق للسفن، بل كان رمزاً للعلم والمعرفة، ومنارة تهتدي بها الحضارات، وأحد عجائب الدنيا السبع التي لا تزال قصصها تخلب الألباب حتى يومنا هذا.
تعود قصة فنار الإسكندرية إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وتحديداً إلى عهد بطليموس الأول سوتر، الذي وضع حجر الأساس للمدينة التي تحمل اسمه. ولكن الفنار لم يكتمل إلا في عهد ابنه بطليموس الثاني فيلادلفوس. استغرق بناؤه سنوات طويلة، وتطلب جهوداً هائلة، حيث بلغ ارتفاعه حوالي 100 إلى 137 متراً، مما جعله أطول بناء صنعه الإنسان في ذلك الوقت، باستثناء الأهرامات المصرية.
يُنسب تصميم الفنار إلى المهندس الإغريقي العبقري سوستراتوس من كنيدوس. لم يكن الهدف من الفنار تجميلياً فحسب، بل كان ذا أهمية عملية حيوية لمدينة الإسكندرية التي كانت مركزاً تجارياً وعلمياً عالمياً. كانت السفن تأتي من كل حدب وصوب، وفنار الإسكندرية كان بمثابة العين التي ترى وتُرى من مسافات بعيدة، موجهة إياها إلى الميناء الآمن.
هندسة معمارية تتحدى الزمن
تتحدث المصادر التاريخية عن تفاصيل مدهشة في تصميم الفنار. كان يتألف من ثلاثة طوابق رئيسية، كل منها يتميز بشكله الخاص. الطابق السفلي كان مربعاً، يعلوه طابق مثمن الأضلاع، ثم طابق علوي دائري يعلوه تمثال ضخم، يُعتقد أنه لزيوس أو بوسيدون. كانت المواد المستخدمة في بنائه من الأحجار الكلسية والجرانيت، وقد استخدمت تقنيات بناء متطورة لضمان ثباته وقوته.
أما عن آلية الإضاءة، فقد كانت سراً من أسرار الفنار. يُعتقد أنه كان يستخدم مرآة ضخمة مصقولة من البرونز أو الزجاج لتعكس ضوء الشمس نهاراً، وضوء نار عظيمة ليلاً. كان هذا الضوء مرئياً من مسافة تصل إلى 56 كيلومتراً، وهو إنجاز مذهل بالنظر إلى الإمكانيات التكنولوجية في ذلك العصر.
الفنار: أكثر من مجرد منارة
لم يكن فنار الإسكندرية مجرد برج للإضاءة. فقد كان يضم داخله غرفاً وممرات، ويُعتقد أنه كان يحتوي على آلات ومعدات متطورة، ربما استخدمت لقياس الوقت أو لرصد النجوم. كما كان بمثابة برج مراقبة استراتيجي يحمي المدينة من أي هجمات بحرية.
علاوة على ذلك، كان الفنار شاهداً على عظمة الإسكندرية البطلمية، تلك المدينة التي كانت مركزاً للعلم والثقافة. بالقرب منه، كانت تقع مكتبة الإسكندرية العظمى، وكلاهما كان يمثلان قمة الحضارة الإنسانية في عصرهما.
نهاية الأسطورة وبقاء الأثر
صمد فنار الإسكندرية لقرون عديدة، يقاوم الزلازل والعواصف. ولكن، مع مرور الزمن وتوالي الأحداث التاريخية، بدأ الفنار ينهار تدريجياً. يُعتقد أن سلسلة من الزلازل القوية في القرنين العاشر والرابع عشر الميلاديين هي التي أدت إلى تدميره النهائي. في القرن الخامس عشر، استخدم السلطان قايتباي بقايا الفنار لبناء قلعته الشهيرة التي لا تزال قائمة حتى اليوم في نفس الموقع.
على الرغم من أن فنار الإسكندرية لم يعد قائماً اليوم، إلا أن أثره لا يزال باقياً في الذاكرة والتاريخ. إنه رمز للتفوق الهندسي والعلمي، وللطموح البشري الذي لا يعرف حدوداً. لا يزال يُلهم الفنانين والمهندسين والباحثين، وتبقى قصته دليلاً على أن بعض الإنجازات البشرية لا تزال تضيء دروبنا حتى بعد آلاف السنين من زوالها.
في كل زاوية من زوايا الإسكندرية، وفي كل قصة تُروى عن عظمتها، يظل فنارها العظيم حاضراً، منارة لا تزال تُضيء خيالنا، وتُذكرنا بعصر ذهبي من الإنجازات التي سُجلت بأحرف من نور في تاريخ البشرية.