موسيقى عصر النهضة
د. أمل مبروك
بدأت مظاهر عصر النهضة في الظهور والسيادة بعد أن أصاب الاتجاهات الفلسفية – التي ظهرت في العصور الوسطى – الاضمحلال والتدهور، فسادت النهضة في إيطاليا أولاً ثم تبعتها الدول الأوروبية الأخرى. وبدأت تحتل موسيقى هذا العصر مكانها الصحيح بين الفنون، بعد أن تعرضت طويلاً لسوء الفهم والاغفال؛ وخضعت لإساءة التصور والتقديرات الجمالية الزائفة. وفي الوقت التي كانت الكنيسة فيه تحارب المؤثرات الدنيوية التي كان يعتقد أنها تؤدي إلى إفساد شعائر العبادة، كانت الرغبة في التعبير العقلي والفني تزداد انتشارًا؛ وتتجاوز الباحثين والفنانين إلى عامة الناس.
كتب الفيلسوف الفرنسي "ميشيل دي مونتاني" عن أسفاره في إيطاليا آنذاك، فقال: "لقد دُهشت إذ رأيت الفلاحين يمسكون العود في أيديهم، وإلى جانبهم الرعاة ينشدون أشعارًا يحفظونها عن ظهر قلب. وهذا أمر يمكن أن يراه المرء في جميع أنحاء إيطاليا". وقد ازدهرت فرق العازفين والمغنين في أرجاء أوروبا في القرن السادس عشر، وأصبحت الآلات الموسيقية من الكماليات البهيجة التي يحرص الناس العاديون على اقتنائها في بيوتهم؛ وانتشرت الاجتماعات الموسيقية الارتجالية، وألم العامة بأسرار الموسيقى.
وقد عكف زعماء الفنانين – في عصر النهضة – على البحث بطريقة علمية عن آثار الحضارة الكلاسيكية، وقاموا بفحصها وقياسها حتى يمكن الاستعانة بأصولها في الإبداع الفني؛ وبنوا نظرياتهم الجمالية على كتابات الفلاسفة من العصور القديمة وفلاسفة العصر اليوناني الروماني. واختاروا – نموذجًا لهم – التراجيديا اليونانية، إذ اعتقدوا أنها تعتمد في الأداء على الغناء من البداية إلى النهاية. لقد أراد الموسيقي – في هذا العصر – أن يحاكي الشاعر والمغني اليوناني، الذي تحدث عنه "أفلاطون" حيث ذكر أن الشاعر المغني كان يؤلف ألحانه على إيقاع النص الشعري ووزنه؛ وهذا عين ما فعله موسيقي عصر النهضة الذي تحمس لإيجاد توازن مثالي بين النص الكلامي وبين اللحن الموسيقي. وهكذا أعلن "هيرمان فنك" – من الفنانين العظماء في هذا العصر – في كتابه: ممارسة الموسيقى أنه "إذا كان الموسيقيون القدماء قد برعوا في معالجة الأساليب القياسية المعقدة، فإن الموسيقيين الأحدث عهدًا قد فاقوهم في جمال اللحن؛ وهم حريصون كل الحرص على أن يوائموا بين الأنغام وألفاظ النص حتى يعبروا عن معناها وروحها بأعظم قدر من الوضوح".
إن ما سعى إلى تحقيقه فنانو عصر النهضة هو إحياء موسيقى العصور القديمة، وإن كان الافتقار إلى آثار هذه الموسيقى قد دفعهم إلى الظن بأن الأبحاث النظرية فيها الكفاية. ومع هذا قد استقر معنى واحد وهو الاعتقاد بما كان للنص من أهمية في موسيقى القدامى واتباع موسيقاهم أوزان الكلمات وإيقاعها. ولعل أوضح مثال على ذلك الموسيقى الفرنسية التي خضعت للكلمة وما يتبعها من خضوع للفكر والعقل. تشبث الفرنسيون بالأغنية، وطالبوا دائمًا بالموسيقى التي تطرب الأذن والكلمات التي تشغل العقل.
وفي فينيسيا رسم الموسيقي والباحث النظري "جوزيفو زارلينو" صورة مثالية لموسيقى العالم القديم، ويفخر بما صنعه عصره من أجل بعثها من جديد؛ ويرفض صراحة موسيقى العصور الوسطى التي تبدو – في نظره – ضربًا من السفسطة الفنية، وهو ينظر إلى الموسيقى بوصفها محاكاة للطبيعة، ويحاول أن يستخلص تعاليمه من القانون الطبيعي. ويُعّدُ أول من عالج الهارمونية من خلال فكرة "الثلاث"، أي التآلف الهارموني المكون من ثلاث نغمات، وأول من أدرك أهمية التضاد الأساسي بين الديوان الكبير والديوان الصغير. أما تلميذه "نيكولا فيتشتينو" فكان أكثر تحمسًا من أستاذه، حيث حاول إقامة فلسفة جمالية للموسيقى تربط بين أساليب عصر النهضة وبين الموسيقى الدينية؛ فالموسيقى الدينية – في رأيه – ينبغي أن تكون مبنية على نص ديني، وأن تكون في ألحانها ذاتها مشجعة على التقوى والعبادة.