”توت عنخ آمون ” لمعان الذهب وسحر الأسرار في قلب الصحراء المصرية
توت عنخ أمون
إيهابحبلص
في عوالم التاريخ القديم، تتلألأ أسماء وتُنسج حولها الحكايات، لكن قليلًا منها يمتلك بريقًا وسحرًا خاصًا يخلده في الجمعية كاسم "توت عنخ آمون". هذا الفرعون الشاب، الذي حكم مصر لفترة وجيزة، لم يحقق إنجازات عسكرية كبرى أو مشاريع بناء ضخمة تضاهي أسلافه من بناة الأهرامات أو المحاربين العظام. ومع ذلك، فإن اسمه أصبح مرادفًا للذهب الخالص، وللأسرار التي حيرت علماء المصريات لعقود، وللقوة الأبدية للحضارة المصرية القديمة.
ولادة ملك وإرث ثورة دينية:
ظهر توت عنخ آمون على مسرح التاريخ في فترة مضطربة من تاريخ مصر القديمة، وهي نهاية عصر الأسرة الثامنة عشرة. يُعتقد أنه ابن الفرعون أخناتون، "الفرعون المهرطق" الذي أحدث ثورة دينية كبرى بتوحيد العبادة في إله واحد هو "آتون" (قرص الشمس)، وتجاهل الآلهة التقليدية وعلى رأسها آمون. بعد وفاة أخناتون والفترة الانتقالية التي تلتها، اعتلى توت عنخ آمون العرش وهو لا يزال صبيًا صغيرًا، ربما في سن التاسعة. اسمه الأصلي كان "توت عنخ آتون"، أي "الصورة الحية لآتون"، ولكن بعد توليه الحكم، وتحت تأثير وزرائه وكبار الكهنة، عاد إلى عبادة الآلهة التقليدية، وغيّر اسمه إلى "توت عنخ آمون"، أي "الصورة الحية لآمون". هذا التحول الديني يعكس رغبة في استعادة الاستقرار والنظام بعد فترة الاضطراب التي أحدثتها ثورة أخناتون.
حكم قصير ووفاة غامضة:
حكم توت عنخ آمون لمدة عشر سنوات تقريبًا، من حوالي عام 1332 إلى 1323 قبل الميلاد. خلال هذه الفترة، شهدت مصر استعادة نفوذ الكهنة وإعادة تأهيل المعابد التي أهملت في عهد أخناتون. ورغم قصر فترة حكمه، فإن وفاته في سن مبكرة، حوالي التاسعة عشرة، لا تزال محاطة بالغموض. لسنوات طويلة، كانت هناك تكهنات حول سبب وفاته، ما بين الاغتيال أو المرض. ومع تقدم التكنولوجيا الحديثة، أظهرت الدراسات الحديثة، بما في ذلك فحص الحمض النووي (DNA) والأشعة المقطعية لمومياء توت عنخ آمون، أنه عانى من عدة أمراض، بما في ذلك الملاريا، وربما كسر في ساقه. لكن يبقى السؤال حول ما إذا كانت هذه العوامل مجتمعة هي سبب وفاته أم لا، مطروحًا للنقاش.
كنز لم يُمس: اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون:
لكن ما جعل توت عنخ آمون نجمًا ساطعًا في سماء التاريخ لم يكن حياته القصيرة، بل اكتشاف مقبرته غير المنهوبة في وادي الملوك بالأقصر عام 1922 على يد عالم الآثار البريطاني هوارد كارتر ومموله اللورد كارنارفون. كان هذا الاكتشاف لحظة فارقة في تاريخ علم المصريات، فقد كانت المقبرة سليمة تقريبًا، وتحتوي على آلاف القطع الأثرية الثمينة التي بقيت مخبأة لآلاف السنين.
تخيل المشهد: فتح الباب الأول، ثم الثاني، ثم الغرفة تلو الأخرى، وكل منها يفيض بالكنوز الذهبية، والأثاث الفاخر، والتماثيل الرائعة، والمجوهرات البراقة. كان المشهد أشبه بحلم من ألف ليلة وليلة، حيث لمع الذهب في كل زاوية، وتجسدت روعة الحضارة المصرية القديمة بأبهى صورها. القناع الذهبي الشهير لتوت عنخ آمون، المصنوع من الذهب الخالص ومطعم بالأحجار الكريمة، أصبح أيقونة عالمية للجمال والفن المصري القديم.
مقبرة توت عنخ آمون: نافذة على العادات الجنائزية المصرية:
لم تكن المقبرة مجرد كنز من الذهب، بل كانت بمثابة كبسولة زمنية، قدمت للعلماء نافذة لا تقدر بثمن على العادات الجنائزية والمعتقدات الدينية للمصريين القدماء. كل قطعة أثرية، من الأسلحة والدروع إلى الملابس والألعاب، كانت جزءًا من رحلة الملك إلى العالم الآخر، مجهزة ليستخدمها في الحياة الأخرى. كما كشفت المقبرة عن تفاصيل دقيقة حول طريقة الدفن، والتكفين، والطقوس التي كانت تُجرى لضمان خلود الفرعون.
اللعنة المزعومة وتأثير توت عنخ آمون الدائم:
أحيط اكتشاف المقبرة بهالة من الغموض والإثارة، خاصة مع انتشار شائعات "لعنة الفراعنة" بعد وفاة عدد من الأشخاص المرتبطين بالاكتشاف، وعلى رأسهم اللورد كارنارفون. ورغم أن العلم فند هذه الشائعات، إلا أنها أضافت طبقة أخرى من الغموض والجاذبية لقصة توت عنخ آمون.
اليوم، لا يزال توت عنخ آمون يثير الدهشة والإعجاب في جميع أنحاء العالم. كنوزه تجوب المتاحف الكبرى، وتستقطب ملايين الزوار، وتلهم الفنانين والمؤرخين والجمهور على حد سواء. إنه رمز لقوة الحضارة المصرية القديمة، لقدرتها على الإبداع والخلود، ولتلك الروح البشرية التي سعت دائمًا إلى تجاوز حدود الزمان والمكان. توت عنخ آمون ليس مجرد فرعون مات شابًا، بل هو أسطورة خالدة، يتلألأ اسمه ببريق الذهب في قلب الصحراء المصرية، يروي قصة حضارة عظيمة لا تزال تبوح بأسرارها حتى يومنا هذا.