رانيا براغيث تكتب : الخشب المحترق


ركن بعيد في حجره واسعه ألوانها دافئه تملؤها رائحه الخشب المحترق في بطن مدفأة تتوسط الجدر العتيقه محتضنه كرسي عالي الظهر سهل الإهتزاز ....اعتادت أن تحظي بصحبته كلما خلت إلي زجاج شرفتها لتجلس خلفه و تتأمل الماره واحد تلو الأخر ذهابا و إيابا في ذكرياتها البعيده .. هناك من تبتسم لهم و هناك من تلوح لهم مودعه و هناك من يزعجونها فتنصرف سريعا قبل ان تتضح ملامحهم .
تفر و تتصفح كتاب لطالما تركته مفتوحا كل مره علي فصل جديد لتقرأ ما خطته فيه من تجربه عاشتها بحلوها و مُرها وضعته علي رف في ذهنها مليء بالاحجيات ... اعتدلت في جلستها و اتكأت مجددا بعد أن رتبت شعرها الكستنائي الذي يلف عنقها الطويل القائم علي كتفين وحيدين من يد حبيب يربت عليها إذا هلت مشاعر الضيق و المبكيات .
حكت جبينها الناعم فاقترب معصم يدها من أنفها فاستنشقت مجددا رائحه عطرها الذي اعتادت استعماله منذ أهداها إياه حبيبها الاول .. نعم كان الحبيب الذي من أجله خفق قلبها و نضجت معه مشاعر لم تختبرها كإمرأه من وقتها .. و شدت حول ذراعيها شالا أبيضا من الصوف صفاء لونه أعادها الي تلك الزهرية التي تعلو طاوله الطعام في بيت أمها التي لم تخلو يوما من زهور اللي لي البيضاء او الروزات الناعسة .
لم تراهم يوما إلا و رأت أمها تراعيهم بإهتمام كما كانت ترعي كمانها الذي عزفت عليه كل القيم و المباديء عندما سقتهما أياها في مطلع عمرها .. تنهدت و أصدرت همهمه غير مفهومه و كأنها تتحدث بلغه قديمه لا يعرفها إلا تلك العيون لمصير غير معلوم القابعة خلف هذا الضباب الغامض حيث يعلو المساحه التي أمام شرفتها يخبيء وراؤه الكثير من لحظات الشجن و اخري من النشوي .
تمنت لو عادت الي وطنها في تلك اللحظه فكم اشتاقت لمدينتها و التنزه عند الغروب علي الشاطئ بالقرب من بيتها مع صديق لطالما قاومت أن تضحي بصداقته اذا أخبرته أن عمق مشاعرها تحولت وأنها تبادله تلك الأحاسيس التي تهاجمها كلما نطق في هدوء اسمها.
ارتشفت القليل من قهوتها التي سكبت بعضها أرضا عند قدمها و تذكرت أولي خطواتها في ساحه الجامعه الفسيحة عندما دخلتها لأول مره و استمعت الي كل اللغات التي تعرفها و لم تسمع أبدا لسان ينطق كحالها ..و كيف سرت قشعيريره غريبه في أوصالها عندما ذهبت الي هذا السرير البارد في الغربه يوم بعدت عن اَهلها و كيف دارت الأيام و السنين بنفس البروده و انطوت الاوقات بعد زواج تقليدي في هذه الارض الكالحه دون سعاده او مغامره تضيف لايامها او تأخذ من اهتماما ؟.
أطالت النظر بعيدا خلف النافذة التي تمتعت بالقرب من جسدها الجميل اكثر من ذلك الشخص الغريب عنها دائم الانشغال المدعو شريكها ..و انتبهت علي صوت لحن قديم أتي من صاله هذا البيت الفسيح الضيق علي صدرها ..كانت تستمع إليه تلك المرأه القاسية الملامح التي تعتني به و تحاكي أثاثه الذي قضت عمرها كلها تدلله باهتمام بالغ من اجل استرضاء سيدها الذي لم يلتفت يوما الي نظراتها الفاضحة لحبها .
و ذكرتها هذه الموسيقي ببيت أعز صديقاتها التي لم تتضحك من قلبها كما كانت تفعل معها اذا استمعت لسخريتها من جيرانهم الأجانب و كيف كانوا يزعجونهم بحفلات الشواء ليلا في حديقة المنزل حيث كانت شركا بينهم ... و توترت عندما استفاقت من رحلتها علي صوت الصمت المطبق علي أركان حياتها و تسألت بصوت عالي أخترق حاجز الموت الذي تعيشه الغرفة الخاليه من اَي من مظاهر الحياه الا من بخار انفاسها .. لماذا لا أعود لوطني و أخبر صديقي عن حبي و أهاتف صاحبتي و أزرع حديقتي .
لماذا الأستمرار مع شريك ليس بشريك و حبيب لم يكن يوما حبيب، لم يعدو معي مره في الصباح و لم يراقصني مره ليلا و لم يبتاع لي ورودا او يلتقط لي صورا او يعزف لي او حتي يكتب لي شعرا ... لا يضمني اذا غرقت في نوبه من الضحك و لا يتحسس شعري اذا غفوت علي كتفه في نزهه بالغابه التي يصطحبني معه فيها لازوده بالرصاصات فقط لقنص الطير .إنه لا يتحدث معي كما يفعل مع حصانه ولا يتودد الي كما يتودد الي سيجاره .
و وقفت و اتجهت الي باب الغرفه و هي تتلمس كل اساسها في رفق ...و تهمس و صدرها يعلو و يهبط من شده خفقان قلبها لتلك الجرأه التي باغتتها فجاه ....الحياه هديه و العمر ربما يكون مجرد لحظات آتيه ... سأترك النافذة و اكف عن العيش بين الذكريات .. ساحيااااااا هناك في أرض الأحباب و اغني من وحي الواقع كل معاني الحياه ... ساخلق انا سعادتي و ألهو و اضحك و سالوح وداعا من الخارج لزجاج النافذة .