التفوق الديموغرافي القوة الدافعة الأساسية خلف التطور التاريخي للأمة

د. لو ينغ بوه
استاذ اللغة العربية بجامعة اللغات والثقافة ببكين
كثيرًا ما يسألني أصدقائي العرب عن سبب تحدث معظم الصينيين بلغة قومية الهان التي تعد اللغة الفصحى في الصين بدلًا من لغاتهم العرقية، مع وجود ست وخمسين قومية عرقية في الصين.
وفي كل مرة يسألونني، أقول لهم: إن ثقافة قومية الهان هي أساس الثقافة الصينية، وأن قومية الهان تُشكل غالبية سكان الصين، والغالبية العظمى من القوميات العرقية الست وخمسين، بما في ذلك الأقليات المسلمة العشر، تستخدم لغة قومية الهان كلغة أمّ؛ للتعبير عن أفراحها وأحزانها وغضبها وسعادتها في الحياة، ولم يكن هناك أي شعور بالتنافر خلال هذه المراحل .
ويرجع ذلك إلى أن لغاتهم العرقية أصبحت جزءًا من لغة قومية الهان (مثل بعض الكلمات أو التعبيرات) من خلال عملية الاندماج مع قومية الهان.
اقرأ أيضاً
أشرف العيادي: زيارة الرئيس السيسي للسعودية تعزز من حجم الشراكة الإستراتيجية والأمن العربي والتنمية الاقتصادي
باسم الجمل: مصر والسعودية ركيزتا الأمن العربى وجدار الصمود فى وجه العواصف
قيادى بـ”حماة الوطن: زيارة الرئيس السيسي للسعودية توحيد للصف العربي في مواجهة التحديات
النائبة هند رشاد: الشراكة المصرية السعودية ركيزة لاستقرار المنطقة وصون الأمن القومي العربي
نائب بالشيوخ :زيارة الرئيس السيسي للسعودية تجسد متانة التحالف المصري السعودي ودوره في صون الأمن العربي
النائب محمد شعيب: الشراكة بين القاهرة والرياض نموذج للتحالف الاستراتيجي العربي
مصر أكتوبر: زيارة السيسي للسعودية تأكيد على الشراكة الاستراتيجية ودعم القضايا العربية
ياسر إدريس يستقبل وفد الاتحادين الكويتي والعربي للسباحة فى إطار تعزيز التعاون الرياضي
الدول العربية ومنظمة شانغهاي تعاون وتنمية
أسامه جمعة: الموقف العربي الإسلامي الموحد رسالة إنذار حقيقية لإسرائيل ومواجهة قوية لأوهام الاحتلال
مدحت الكمار: البيان العربي الإسلامي صفعة لمخططات الاحتلال ودليل على وحدة الموقف
أمين تنظيم الجيل: وحدة الموقف العربي والإسلامي ركيزة لمواجهة الانتهاكات والأوهام الإسرائيلية
إن كون ثقافة قومية الهان هي الثقافة السائدة في الصين، ولغة الهان هي اللغة الدارجة فيها، وهما أمران مُحددان بالقاعدة السكانية الصينية.
وهذه القاعدة السكانية تحديدًا هي التي ضمنت لثقافة الهان مكانةً مهيمنةً وقويةً في التفاعلات مع ثقافات القوميات الأخرى على مدار أكثر من ألفي عام من تاريخ الصين المدوَّن، حيث كانت هويتها كـ"مُستوعِبة" أكثر بروزًا من هويتها كـ"مُستوعَبة".
هناك مقولة شائعة في الأوساط التاريخية الصينية تتضمن إلى حد كبير حقيقة أن الأقليات العرقية التي حكمت أغلبية الهان في التاريخ الصيني لم تدم أكثر من قرن، وقبل مضيّ هذه الفترة، كانت هذه المجموعات العرقية الأجنبية قد اندمجت بالفعل في قومية الهان الصينية واندمجت في المجال الثقافي الصيني.
حيث كان المغول بقيادة جنكيز خان يحكم جزءًا كبيرًا من شرق آسيا وأسسوا إمبراطورية موحدة، ونظرًا لضعفهم الديموغرافي والثقافي، لم يتمكنوا من إخضاع قومية الهان ثقافيًّا، بل على العكس من ذلك، اندمجوا تدريجيًّا في ثقافة الهان، وأصبحوا الآن جزءًا من الأمة الصينية القائمة على ثقافة الهان.
لقد أظهرت الثقافة الصينية المتجذرة في الكونفوشيوسية قدرةً هائلةً على التكامل والتطور في تفاعلاتها مع الحضارات الأخرى، وفي الوقت نفسه أظهرت مرونةً وصمودًا هائليْن.
اتسمت الثقافة الصينية دائمًا بالمساحة الشاسعة، والموارد الوفيرة، والكثافة السكانية العالية على مدار آلاف السنين من تطورها.
تتجذر الثقافة الغربية في الحضارة البحرية، متمحورة حول "البقاء للأقوى"؛ بينما تتجذر الثقافة الصينية في الحضارة الزراعية، متمحورة حول "التكاثر والتطور"؛ ولهذا السبب، كلما اصطدمت الثقافة الصينية بأنظمة ثقافية أخرى، فإنها تُظهر حيوية لا حدود لها.
باستعراض التاريخ، نجد أنه ليس من الصعب إدراك أن الثقافة العربية الإسلامية شأنها شأن الكونفوشيوسية، لديها أيضًا قدرة هائلة على الاستيعاب الثقافي.
في عام 1258، قاد هولاكو فرسان المغول في مذبحة بغداد، حيث أسر آخر الخلفاء المسلمين المعتصم بالله وقُتل دهسًا تحت أقدام الخيول في كيس من الخيش، ثم أسس دولة الإلخانية (المغول) على تلك الأرض، ومع ذلك لم يمضي إلا خمسون عامًا حتى أصبح الجيل الخامس من أحفاد هولاكو متأثرًا بالثقافة الإسلامية، مسلمًا متدينًا، وقدم إسهامات جليلة في تطوير الإسلام في المنطقة.
قال البروفيسور فيليب خوري من جامعة برينستون الأمريكية من قبل: "في القرن الثالث عشر، فشل المسلمون عسكريًّا، لكن دينهم انتصر".
لماذا يتمتع الإسلام والصين بهذا التأثير العظيم؟ هاتان الثقافتان تتمتعان بقاعدة سكانية ضخمة، وفي عملية التكامل والتصادم الثقافي، غالبًا ما تلعب القاعدة السكانية الدور الأهم والأكثر جوهرية.
وفي الوقت الراهن، بينما يواجه العالم انخفاضًا في عدد السكان، يحافظ العالم العربي على معدلات خصوبة مرتفعة بشكل استثنائي، مما يخلق قاعدة سكانية ضخمة ومتنامية.
وعلى الرغم من أن لهذا الأمر بعض العواقب السلبية (مثل ارتفاع معدلات البطالة والاضطرابات الاجتماعية)، إلا أنه يلعب دورا جوهريا كالمنارة في البحر والمرساة للسفينة من حيث التأثير الثقافي.
سبق للكاتب أن قضى عامًا كباحث زائر في الجامعة العبرية بالقدس الشريف، واكتُشفت ظاهرةٌ تستحق الانتباه وتدعم هذه النقطة من منظورٍ آخر.
في حين يتحدث الشباب الفلسطينيون الحاملون للجنسية الإسرائيلية والمقيمين في تل أبيب والقدس العبرية بطلاقةٍ لأغراضٍ أكاديميةٍ ومعيشية، يبدو أنهم لا يزالون يُظهرون مقاومةً نفسية واضحةً، بل وعداوةً للثقافة اليهودية.
إلى جانب العوامل السياسية المعروفة، فإن السبب الأكثر مباشرةً لذلك هو أن اليهود لا يزالون أقليةً كبيرةً في الشرق الأوسط، وأن الثقافة اليهودية - باعتبارها مظهرًا ثقافيًّا لجماعةٍ أقلية - لا تستطيع استيعاب السكان العرب الذين يُشكلون الأغلبية الساحقة.
قد لا يمكن قياس قوة ثقافة ما بمجرد حجم سكانها، ولكن يُمكن اعتبار القاعدة السكانية إحدى علامات قوة النظام الثقافي، ويبدو أنه لم يسبق في التاريخ البشري أن شهد نموًّا في نفوذ ثقافة ما بينما يتراجع حجم سكانها انخفاضًا حادًّا.
خلاصة القول: لا يمكن لأي ثقافة أن تحتكر أراضيها، فالحضارات لا بد أن تتداخل، والتكامل والتغيير أمران ثابتان. في عملية التفاعل والتأثير الثقافي، تتحدد شرعية أي نظام ثقافي ومبرراته إلى حد كبير بقاعدته السكانية. ووفقًا لنظرية تشارلز داروين"البقاء للأصلح"، فإن حجمًا سكانيًّا كبيرًا وحده يكفي لإثبات التفوق الثقافي، ومع ذلك، فإن جذور القلق والخوف الأوروبي من التوجه الحالي نحو "أسلمة أوروبا" تكمن في أنه بينما تتناقص أعداد الأوروبيين الأصليين، مثل: الغال، والكارثوسيين والإيبيريين والفايكنج بسرعة، فإن أعداد الشعوب العربية المجاورة تتزايد باستمرار، ويشبه هذا الأمر قطرتين من سائل بتركيزات مختلفة، إذ تقتربان من بعضهما بعضًا، حيث يؤدي اختلاف التركيز حتمًا إلى اختلاف في الضغط، وتبادل جزيئات الماء بينهما، مما ينتج عنه تركيز موحد، أمرٌ لا مفر منه. ومن دون ما يسمى "الربيع العربي"، فإن الكثافة السكانية العالية في العالم العربي سوف تنتشر حتماً إلى أوروبا بطريقة ما، وتستوعب ثقافتها وتغيّرها.
لذا، أصدقائي العرب، عندما يحاصركم عجز التنمية الحالي، وعندما تُكافحون لإيجاد طريق نحو التصنيع، وعندما تُغرقكم الاضطرابات العالمية والإقليمية، لماذا لا تبقون صامدين للحفاظ على وجودكم؟ نؤمن بالطاقة التي تشع عندما تلتقي الثقافة العربية الإسلامية الصامدة مع شعوبها الغفيرة.
لقد مرّ العالم العربي بأوقاتٍ عصيبةٍ ومُثيرةٍ للتحدي عبر التاريخ، ومع ذلك فهو لا يزال مستمرًّا في التطوير حتى اليوم، وبالتأكيد ستجد صعوبات اليوم المؤقتة حلولًا مع مرور الوقت، كما حدث دائمًا في التاريخ، فكل ما فعله هو التحلي بمزيد من الصبر والصمود، وعدم التأثر بالاضطرابات والتغيرات الخارجية والحفاظ علي السلام الداخلي