زهرة شوشة تكتب: ورقة صفراء باهت لونها

في صباح مزدحم من صباحات حي الفجالة وبين دفاتر الرسم وأقلام المدرسة كنت أشتري بعض المستلزمات لبناتي حين دخل رجل خمسيني تبدو عليه الحيرة والتردد وسأل صاحب المكتبة: عندك ورق أصفر قديم؟
رد صاحب المكتبة بلهجة قاطعة كأنه سمع السؤال من قبل عشرات المرات: لا... روح الله يسهلك.
شدني المشهد وزاد فضولي اقتربت وسألته: يعني إيه ورق أصفر؟
ابتسم ابتسامة باهتة وقال:
ده بيستعملوه في... اللهم احفظنا... أعمال السحر والشعوذة.
كانت إجابة بسيطة لكنها فتحت بابا واسعا على عالم صامت لا نراه إلا حين يصطدم بنا في التفاصيل اليومية...
ذلك النوع من السحر الذي لا يمارس في الاماكن المهجورة.. بل في قلب الامان وسط الحياة... لا يكتب على جلود الحيوانات بل على أوراق صفراء باهتة تباع في زوايا المكتبات...
ظاهرة السحر لم تختف بل غيرت وجهها صارت أكثر انسيابا ومرونة في الحياة أكثر مهارة في التخفي وأشد قدرة على استغلال هشاشة الإنسان...
ولعل النساء هن الأكثر ترددا على هذا العالم الغامض الملتبس..
لا لأنهن أضعف بل لأن القهر الذي يحملنه يدفعهن للبحث عن أي نافذة حتى لو فتحت على هواء مسموم...
تذهب المرأة إلى الساحر بحثا عن زوج، عن طفل، عن رزق، عن عدل لم تجده...
كل ما تطلبه مشروع لكن الطريق إليه مظلم...
في لحظة ضعف تدفع آخر ما تملك لورقة... تسلم قلبها لطلاسم... وتضع أملها في يد مشعوذ... يبيع لها ما لا يملك...
ولا يقتصر هذا العالم على الداخل بل يتسع ليشمل مشعوذين وافدين من المغرب والسودان والصومال يتقنون التمثيل ويختبئون خلف عباءات روحانية يتحدثون عن "المدد" و"الفتوحات" و"الحلول" ويخدعون من لم يجد تفسيرا آخر لألمه.
في الأسواق الشعبية وفي المزارات الدينية، وأمام المستشفيات، وعلى صفحات الإنترنت… يتكرر المشهد.
مرة بلحية وثوب أخضر وسبحة طويلة...
ومرة كخبير أعشاب ووصفات سحرية...
ومرة في حي راقٍ يرتدي بدلة ويقدم نفسه كمعالج بالطاقة و"تنظيف الهالة" و"الشفاء بالذهب"...
و من الفُجر ان ترى إعلاناتهم على الجدران في الشوارع الكبرى كأنها إعلانات عن وظيفة مرموقة...
"جلب الحبيب خلال 24 ساعة"، "الحجز عبر الرقم"، "فك الربط" في جلسة واحدة، وووو....
لم يعد الأمر يخفى بل صار يسوق له... في وضح النهار.
لكن خلف هذا الضجيج هناك إنسانة.
امرأة تبحث عن نجدة، عن راحة، عن تفسير، عن حنان.
وما يؤلم أكثر أن المجتمع حين تبوح يسخر منها وحين تسكت يدينها.
العار، والخوف، والخذلان، يصنعون سجنا لا يرى… ومع الوقت... تدمن بعض النساء هذا الألم على أمل أن ينتهي.
هنا تظهر الحاجة الحقيقية
ليس فقط لمحاربة المشعوذين بل لمحاربة اليأس الذي دفع الناس إلى أبوابهم... والفراغ الذي سمح لهم بالدخول...
وحين تضع المرأة أملها في ورقة كالغريق الذي تعلق بالقشة فإن المجتمع يكون قد انسحب من مسؤولياته تاركا الهشاشة تتفاوض وحدها مع المجهول...
وهكذا تكتب آلاف النساء حكاياتهن في صمت...
تعود كل واحدة إلى بيتها تطوي الورقة تخبئها في درجٍ خفي وتنتظر المعجزة...
لكن للأسف المعجزات لا تُكتب على الورق...
المعجزات، في هذا الزمن تبدأ حين يشعر أحدنا بوجع الآخر...
قبل أن يجبره اليأس على أن يكتبه بالدم على ورقة صفراء.