مالك السعيد المحامي يكتب: اقتراح مشروع لإنشاء محاكم للتركات في مصر..عدالة ناجزة. استقرار اجتماعي

مالك السعيد المحامي يكتب: اقتراح مشروع لإنشاء محاكم للتركات في مصر..عدالة ناجزة. استقرار اجتماعي
في ظل تزايد النزاعات حول تقسيم المواريث، وارتفاع حجم الأموال والأصول والمنقولات المجمدة، وتعقّد الإجراءات القضائية والإدارية المرتبطة بهذا الملف الحيوي، يستلزم ذلك وبشكل عاجل إنشاء محاكم للتركات فى مصر، وهي محاكم نوعية متخصصة تُعنى بالنظر في جميع القضايا المتعلقة بتركات المتوفين، بما يشمل حصر التركة وتقييمها، وتحديد الورثة، وتنفيذ إجراءات القسمة الشرعية، وفض المنازعات بين الورثة، وكذلك إدارة نصيب القُصّر أو الغائبين ضمن التركة، والتصرف في أموالهم بما يحفظ حقوقهم.
تقوم هذه المحكمة على فكرة التخصص القضائي، التي أثبتت فعاليتها في تحسين أداء العدالة وتخفيف العبء عن المحاكم العامة، وتُسهم في تسريع إجراءات التقاضي وتطبيق القانون والشريعة بفاعلية. وتختص محكمة التركات بالفصل في عدد من القضايا منها حصر وتقييم أصول التركة، سواء كانت عقارات أو أموال نقدية أو أسهمًا أو منشآت أو شركات أو ديون، وتحديد الورثة المستحقين وفقًا لقواعد الشريعة الإسلامية والقوانين المدنية، كما تتولى فض المنازعات بين الورثة حول القسمة، والنظر في الطعون المتعلقة بإعلامات الوراثة، فضلًا عن إدارة حقوق القُصّر ومتابعة تنفيذ الوصايا أو إدارة الأموال الموقوفة، ومراجعة التصرفات التي أُجريت قبل الوفاة بقصد الإضرار بحقوق الورثة.
إن الأهمية التشريعية لإنشاء محكمة متخصصة تكمن في قدرتها على إنهاء هذا التداخل القانوني، وتخصيص دوائر قضائية ذات ولاية واضحة وملزمة، وإلزام جميع الجهات بالتعاون معها لتسليم الحقوق لأصحابها دون إبطاء. يتطلب ذلك تعديلًا قانونيًا ينص على تشكيل هذه المحكمة، واختصاصها المنفرد، وتحديد هيكلها الإداري والقضائي بما يسمح بمرونة الإجراءات.
وتبلغ نسبة القضايا التي تتعلق بالنزاع على الملكية العقارية ضمن التركات أكثر من 60% من إجمالي النزاعات، وفقًا لتقارير محكمة النقض. كما أن جزءًا كبيرًا من أصول التركات في الريف – التي تشمل الأراضي الزراعية – لا يتم توثيقه رسميًا بسبب ضعف الثقافة القانونية أو التكلفة الباهظة للإجراءات، مما يؤدي إلى حرمان الدولة من تحصيل ضرائب التصرفات العقارية أو ضريبة التركات.
ولا يمكن إغفال البُعد الاجتماعي لإنشاء محكمة التركات، إذ من أبرز التأثيرات السلبية الراهنة هو تآكل النسيج الأسري بسبب النزاعات الطويلة بين الإخوة والأقارب، خاصة في غياب جهة موثوقة وسريعة للفصل، إلى جانب حرمان كثير من النساء من حقوقهن الشرعية في الميراث، سواء عن طريق الضغوط العائلية أو الجهل بالحقوق، أو تعقيدات الإجراءات. وتشير تقارير صادرة عن المجلس القومي للمرأة إلى أن نحو ثلث السيدات في صعيد مصر لا يحصلن على نصيبهن من الميراث. كما تشير إحصاءات شبه رسمية إلى وجود أكثر من 4 ملايين فدان زراعي لم يُحسم وضعه التوريثي حتى اليوم، مما يحرم الاقتصاد الزراعي من استثمار حقيقي في تلك الأراضي.
وفي سبيل إنجاح هذا المقترح، يُفترض أن تقوم محكمة التركات على كوادر متخصصة، تشمل قضاة ملمين بقوانين المواريث والشريعة، ومحاسبين قانونيين، وخبراء مواريث، وخبراء تقييم عقاري ومالي، إلى جانب موظفين إداريين ومأمورين متخصصين بحصر التركات. كما ستحتاج المحكمة إلى تعاون مباشر مع عدد من الجهات مثل وزارة العدل، دار الإفتاء، مصلحة الشهر العقاري، مصلحة الضرائب العقارية، البنك المركزي، والنيابة العامة لشؤون الأسرة.
إن الدعوة إلى إنشاء محكمة للتركات في مصر ليست ترفًا قانونيًا، بل ضرورة تشريعية واقتصادية واجتماعية، تستحق أن تتصدر أولويات الدولة، والمشرّع، ووزارة العدل. إنها بوابة إلى عدالة ناجزة، وتمكين اقتصادي، وسلم اجتماعي دائم، وضمان لتفعيل حقيقي لحقوق الإنسان والمواطنة والعدالة الناجزة.