بيت الفلسفة بالفجيرة واستعادة الروح السقراطية
- إبتهال عبد الوهاب

البيت هو مجاز له دلالات عديدة، فهو يشير إلى المأوى، إلى الحضن، إلى السكن، إلى تلك البقعة الآمنة من العالم التي يجد فيها الإنسان ذاته ولا يشعر بالغربة أو الوحشة أو الضياع.
من هنا كانت تلك المبادرة التي انطلقت من إمارة الفجيرة عام 2021 بتأسيس بيت للفلسفة. إنها فكرة جديدة ومبتكرة ربما تكون الأولى من نوعها على مستوى العالم العربي، وهي تلتقي مع النهج الجديد الذي اختارته دولة الإمارات منذ العقد الماضي، ونعني بذلك العمل على تدعيم القيم الكونية والعالمية التي ترسخ فكرة المشترك الإنساني، ولا شك أن الفلسفة بوصفها هذا الأفق الحر الذي يتجاوز الصراعات الطائفية والعقائدية والأيديولوجية تمثل المجال الملائم والمثالي لتحقيق حلم العيش المشترك والتطلع إلى عالم يخلو من العنف والقهر ويسوده الحب والسلام والحرية والتسامح.
وانطلاقاً من هذه الرؤية قام سمو الأمير الشيخ محمد بن حمد الشرقي ولي عهد الفجيرة برعاية وتبني فكرة هذا المشروع الرائد الذي ولد عملاقاً وكبيراً، وهذا ما يمكن أن نلمسه بسهولة من خلال الفاعليات والإنجازات التي استطاع القائمون على المشروع والمشاركون فيه أن يقدموها خلال العامين الماضيين، إذ قدموا نتاجاً مشرفاً يليق بالتطلعات الفكرية والمعرفية لمؤسسة فلسفية، ويخدم استراتيجية تحرير عقل الإنسان العربي من أمراضه المعرفية والدوجمائية.
وعلى هذا النحو قام البيت بتنظيم مؤتمره الأول في نوفمبر من عام 2021 وجاء تحت عنوان: "من السؤال إلى المشكلة". وفي العام الثاني 2022 احتفل بيت الفلسفة باليوم العالمي للفلسفة من خلال تنظيم مؤتمر دولي حمل عنوان: "الفلسفة والراهن" وشارك في هذا المؤتمر نخبة من فلاسفة العرب والعالم، وناقش أسئلة ترتبط بتأصيل الوعي الفلسفي العربي.
ولم يقف طموح بيت الفلسفة عند حد عقد المؤتمرين السابقين، ولكن تم تنظيم عدداً من الدورات الفلسفية التعليمية لجميع المراحل العمرية، فضلاً عن إصدار دورية فصلية تحمل عنوان: مجلة بيت الفلسفة، وهي مجلة تمثل لسان حال فلاسفة العرب، وتعبر عن أهم القضايا الفلسفية المثارة في واقعنا العربي. وبالإضافة إلى ذلك قام البيت بنشر عدد من السلاسل الفكرية الخاصة بالفلاسفة العرب من أمثال الكندي والفارابي وغيرهم، وكذلك سلسلة أخرى جاءت تحت عنوان أسئلة فلسفية.
ويجسد بيت الفلسفة روح العمل الجماعي في أبهى صوره، لذلك تم تأسيس حلقة الفجيرة الفلسفية، وهي حلقة بحثية وإدارية تُعنى برسم السياسات العامة لهذه المؤسسة الحيوية، وتضع استراتيجية متكاملة لنشر الوعي الفلسفي داخل وخارج دولة الإمارات.
ويستعيد بيت الفلسفة بالفجيرة تلك المهمة السقراطية القديمة، ألا وهي إنزال الفلسفة من السماء إلى الأرض، والسعي إلى تحويل الفلسفة من خطاب متعالي ومفارق لهموم البشر إلى خطاب أكثر إنسانية وأكثر قرباً من عالم الحياة اليومية، بعبارة أخرى بيت الفلسفة مهمته أن تصبح الفلسفة في متناول الجميع: الأطفال، الشباب، الشيوخ، المتخصصين، وأيضاً غير المتخصصين.
ويعود الفضل في تأسيس هذا الكيان الفكري والثقافي الكبير إلى الشاعر الفيلسوف د. أحمد نسيم برقاوي، والذي يشغل حالياً منصب عميد بيت الفلسفة والدكتور برقاوي ليس مثقفاً تقليدياً، بل هو أقرب ما يكون إلى ذلك المثقف الذي يُسميه "انطونيو جرامشي" بالمثقف العضوي، إنه المثقف المنخرط بصورة دائمة في قضايا وهموم الواقع والوطن، والمعبر عن طموحات وأحلام كل من يتوقون للحرية. والدكتور برقاوي يمتلك روحاً حرة وعقلاً فلسفياً وقاداً (بحسب تعبيره الجميل)، وهو شاعر وناقد وفيلسوف ومثقف موسوعي كبير، لذلك فليس مستغرباً أن تجتمع الآراء جميعاً على تسمية مكتبة بيت الفلسفة والتي تضم أكثر من خمسين ألف كتاباً في الفلسفة باسم سيادته.
ومن الأهداف التي يسعى بيت الفلسفة إلى تحقيقها: مناقشة القضايا الفلسفية المعاصرة الأكثر إلحاحاً وتسليط الضوء على دور الفلسفة في الحياة اليومية وخلق نخبة من المفكرين الإمارتيين من الشباب والأطفال وتحفيزهم على التفكير فلسفياً بعيداً عن أي أيديولوجيات، حتى يتسنى تأسيس مستقبل تؤدي فيه هذه النخبة دورها في تغيير الوعي العربي بحيث يصبح أكثر عقلانية وحرية.
وبيت الفلسفة على هذا النحو هو منصة فكرية حقيقية لكل من يفكر خارج السرب وخارج سلطة التفكير الغيبي والخرافي والتكفيري. إن بيت الفلسفة هو مظلة لكل من يفكر تفكيراً نقدياً وتنويرياً، ولذلك اختتم مقالي بأن أقول:
إذا كنت تمتلك القدرة على التفكير الحر بغير خوف أو تردد.
إذا كنت ممن يؤمنون بالتعددية وقبول الآخر.
إذا كنت تؤمن بأن هناك مشترك إنساني بين جميع البشر يتخطى كافة الأيديولوجيات السياسية والدينية.
إذا كنت تقدس الحرية وترى أنها أسمى القيم.
إذا كنت تمتلك القدرة على جرأة السؤال.
إذا كنت تنبذ التعصب والكراهية وتعلي من قيمة التسامح والحب.
إذا كنت إنساناً مستقلاً وترفض أن تكون رأساً في القطيع.
فأهلاً بك في بيت الفلسفة.