البيئة بين صراعات السياسة ونداءات الكوكب ..بقلم دكتور وفيق نصير

لم يعد تغيّر المناخ قضية بيئية محضة، بل أصبح عنوانًا رئيسيًا للأحداث الجارية، يفرض نفسه في نشرات الأخبار، ومداولات السياسة، وأسواق الاقتصاد. في صيف 2025 وحده، سجّلت أوروبا واحدة من أشد موجات الحر في تاريخها الحديث، حيث تجاوزت درجات الحرارة في جنوب إسبانيا وإيطاليا 47 درجة مئوية، بينما التهمت الحرائق آلاف الهكتارات من الغابات في اليونان والبرتغال.
وفي آسيا، غمرت الفيضانات مناطق شاسعة من الصين والهند وبنغلادش، مهددة الأمن الغذائي لملايين البشر. هذه الكوارث ليست "حوادث منفصلة"، بل مؤشرات متكررة على اختلال التوازن المناخي العالمي.
سباق الطاقة الخضراء: اقتصاد أم بيئة؟
في خضم هذه التحديات، أصبح التحوّل نحو الطاقة الجديدة والمتجددة ساحة صراع بين القوى الكبرى.
الصين: لا تزال تقود العالم في إنتاج الألواح الشمسية والبطاريات، معلنة عن استثمارات تتجاوز 500 مليار دولار في العقد القادم، بهدف ترسيخ سيطرتها على سوق التكنولوجيا الخضراء.
أوروبا: منذ أن أُغلقت أبواب الغاز الروسي في أعقاب الحرب الأوكرانية، وجدت نفسها مضطرة لتسريع التحول إلى طاقة الرياح والهيدروجين الأخضر، ساعيةً لتقليل اعتمادها على مصادر الطاقة التقليدية.
الولايات المتحدة: أطلقت مبادرة "قانون خفض التضخم" التي تضخ مئات المليارات لدعم الصناعات النظيفة، في محاولة للحاق بالسباق وتعزيز تنافسيتها أمام الصين.
اللافت أن الدافع الأساسي ليس بيئيًا فقط، بل سياسيًا واقتصاديًا أيضًا؛ فالتحكم في سوق الطاقة الخضراء يعني السيطرة على مفاتيح النفوذ العالمي في العقود القادمة.
الحروب ككوارث بيئية
في المقابل، الحروب القائمة تترك ندوبًا بيئية عميقة. الحرب الروسية–الأوكرانية مثلًا لم تكتفِ بتهديد إمدادات الغذاء والطاقة عالميًا، بل دمّرت مساحات من الأراضي الزراعية، ولوّثت المياه والهواء بالوقود المحترق والمتفجرات. هنا يظهر الوجه الآخر للصراع: البيئة تدفع ثمنًا باهظًا، بينما يظل الحديث عن إعادة الإعمار الأخضر مؤجلًا إلى أجل غير معلوم.
العدالة المناخية: الجنوب يدفع الثمن
ورغم أن الدول الصناعية الكبرى تتحمل المسؤولية التاريخية عن 70% من الانبعاثات، فإن دول الجنوب العالمي هي من تدفع الثمن الأثقل. في أفريقيا مثلًا، تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن خسائر القارة جراء تغيّر المناخ قد تصل إلى 50 مليار دولار سنويًا بحلول 2030، رغم أن مساهمتها في الانبعاثات لا تتجاوز 4%.
هذه المفارقة تضع العالم أمام سؤال أخلاقي: هل سيظل الفقراء يتحملون نتائج أخطاء الأغنياء؟
بين المؤتمرات والواقع
المؤتمرات الدولية لا تنقطع: قمة المناخ الأخيرة في دبي رفعت شعارات كبيرة، والقمة القادمة في البرازيل تحمل آمالًا جديدة. لكن على الأرض، لا تزال الفجوة واسعة بين التعهدات والتنفيذ. ففي الوقت الذي تتحدث فيه الدول عن "صفر انبعاثات بحلول منتصف القرن"، تستمر الاستثمارات في الوقود الأحفوري بمليارات الدولارات سنويًا.
نداء الكوكب
البيئة اليوم لم تعد في حاجة لمن يدافع عنها بقدر حاجتها لمن يسمع صوتها. الحرائق، الفيضانات، الأعاصير، والجفاف؛ كلها رسائل واضحة من كوكب يئن تحت الضغط. الرسالة الأساسية بسيطة: الأرض لا تنتظر. والسؤال المطروح أمام صناع القرار ليس "هل نتحرك؟" بل "هل سنتحرك في الوقت المناسب؟"