الدكتورة نرمين فهيم تكتب: كيف تعيد الحوكمة وقياس الأداء تشكيل مسار رؤية مصر 2030؟

تسعى الدول الحديثة إلى بناء أنظمة مؤسسية قوية قادرة على تحويل الاستراتيجيات الكبرى إلى نتائج ملموسة يشعر بها المواطن والاقتصاد على حد سواء. وفي ظل التحولات العالمية المتسارعة، أصبح الارتكاز على مؤشرات الأداء الرئيسية (KPIs) أحد أهم الأدوات التي تُمكّن الحكومات والمؤسسات من متابعة التقدم، وقياس كفاءة التنفيذ، وضمان الشفافية. وفي مصر، تمثل رؤية مصر 2030 الإطار الأشمل لعملية التحول الاقتصادي والإداري والتنمية المستدامة، وهي رؤية طموحة ترتكز على الحوكمة كأحد محاورها الرئيسية، باعتبارها الضامن الأساسي لتحقيق إدارة فعّالة للموارد، ومساءلة واضحة، وقياس دقيق للأثر.

في هذا السياق، تتقاطع الاستراتيجية الوطنية للحوكمة مع منهجية تحديد وبناء KPIs لضمان توجيه الجهود الحكومية نحو أهداف واضحة وقابلة للقياس، وتحقيق المواءمة بين خطط المؤسسات وبين الأولويات الوطنية للتنمية المستدامة. ويطرح هذا المقال تساؤلات جوهرية:
كيف نربط بين الحوكمة وقياس الأداء؟
كيف تساهم KPIs في تنفيذ رؤية مصر 2030؟
وما الذي تحتاجه المؤسسات المصرية لتعظيم أثر هذه المؤشرات على تحسين جودة الخدمات وكفاءة الإدارة العامة؟

أولًا: الحوكمة كأساس للإدارة الحديثة

تُعرّف الحوكمة بأنها الإطار الذي تُدار من خلاله المؤسسات بطريقة تضمن الشفافية، والمساءلة، والعدالة، والكفاءة في استخدام الموارد. وهي ليست مجرد مجموعة قواعد تنظيمية، بل هي ثقافة مؤسسية تضمن أن تعمل كل إدارة وفقًا لمبادئ العدالة والمعايير الفنية.

1. مبادئ الحوكمة في السياق المصري

وفقًا للمحور الرابع في رؤية مصر 2030، تتمثل أهم مبادئ الحوكمة فيما يلي:

• الشفافية والإفصاح
• المساءلة
• الجودة والكفاءة
• مواجهة الفساد
• تمكين التكنولوجيا والتحول الرقمي
• تحسين بيئة اتخاذ القرار

هذه المبادئ لا تحكم فقط طريقة عمل الدولة، بل تحكم أيضًا كيفية قياس نتائجها، وهو ما يُظهر العلاقة الوثيقة بين الحوكمة وقياس الأداء.

2. الحوكمة كضامن لتحسين الأداء المؤسسي

من دون حوكمة فعّالة، تصبح مؤشرات الأداء مجرد أرقام لا تعكس الواقع ولا تؤثر في القرارات. فالحوكمة هي التي تمنح KPIs معناها الحقيقي لأنها:

• تحدد مسؤوليات كل إدارة بوضوح
• توفر آليات للمتابعة والتقييم
• تضمن التزام كل جهة بتنفيذ ما تعهدت به
• تمنع تضارب الأدوار وسوء استخدام الموارد

من ثم، يصبح وضوح الأدوار من أهم المتطلبات لنجاح عملية القياس.

ثانيًا: أهمية ربط KPIs بالاستراتيجية الوطنية ورؤية 2030

تُعد مؤشرات الأداء أحد الأدوات الأساسية في التخطيط الاستراتيجي، فهي تُترجم الأهداف الكبرى إلى أنشطة قابلة للقياس. وفي القطاع الحكومي، لا يكفي وضع الاستراتيجيات؛ بل يجب ربطها بمؤشرات قياس دقيقة تُساعد على تحديد الفجوات واتخاذ قرارات مبنية على البيانات.

1. ما الذي يحدث عندما تُبنى KPIs بدون ربط استراتيجي؟

• تضارب في الأولويات داخل المؤسسة
• ضعف في توجيه الموارد
• عدم قدرة على تقييم الأداء الحقيقي
• تكرار الجهود بين الإدارات
• ضعف الأثر الفعلي في تحقيق أهداف التنمية المستدامة

لذا فإن أفضل الممارسات الإدارية تؤكد أن بناء المؤشرات يجب أن يبدأ من الرؤية ثم الأهداف الاستراتيجية ثم الأهداف التشغيلية ثم المؤشرات.

2. الربط بين KPIs ومحاور رؤية مصر 2030

تركز رؤية مصر 2030 على عدة محاور، منها:

• الاقتصاد والابتكار
• العدالة الاجتماعية
• الحوكمة
• البيئة
• التعليم
• الصحة
• التنمية الحضرية
• الأمن الغذائي

يمكن ربط كل محور بمجموعة من المؤشرات التي توفر للحكومة القدرة على تقييم التقدم، مثل:

• معدل النمو المستدام
• كفاءة المؤسسات
• جودة الخدمات الحكومية
• مؤشرات الشفافية
• كفاءة إدارة الموارد
• نسبة التحول الرقمي
• جودة التعليم والصحة
• مؤشرات الاستدامة البيئية

إن وجود إطار وطني موحد للمؤشرات يضمن أن تعمل جميع الجهات في اتجاه واحد.

ثالثًا: كيف تساهم الحوكمة في بناء مؤشرات أداء فعّالة؟

1. تحديد الأدوار والمسؤوليات

الحوكمة توفر إطارًا يضمن أن كل مؤشر أداء مرتبط بشخص أو وحدة مسؤولة عنه، مما يمنع الإهمال ويحقق المساءلة.

2. تعزيز ثقافة اتخاذ القرار المبني على البيانات

لا يمكن الاعتماد على الحدس أو الرأي الشخصي. فالحوكمة تفرض أن تكون القرارات مبنية على معلومات دقيقة، وتقارير أداء موثوقة.

3. ضمان الشفافية والإفصاح

ترتبط المؤشرات بنظام تقارير دوري، مما يجعل أداء المؤسسات قابلاً للتقييم من جميع الأطراف، بما في ذلك الجهات الرقابية.

4. منع الفساد المؤسسي

بوجود مؤشرات واضحة وموحدة، يصبح من الصعب إخفاء القصور أو سوء الإدارة، لأن الأرقام لا تكذب.

رابعًا: KPIs كأداة لقياس مساهمة المؤسسات في تحقيق أهداف الاستدامة

أهداف التنمية المستدامة (SDGs) تتطلب تتبعًا دقيقًا لمؤشرات الأداء التي تقيس:

• الحد من الفقر
• تحسين التعليم
• تعزيز الصحة
• المساواة
• مدن مستدامة
• اقتصاد قوي
• حماية البيئة

تقوم رؤية مصر 2030 بمواءمة أهدافها الوطنية مع هذه الأهداف العالمية. وهنا يأتي دور KPIs في:

• تحويل أهداف التنمية إلى إجراءات قابلة للقياس
• تقييم الأثر الاقتصادي والاجتماعي للسياسات
• توفير بيانات للحكومة للمراجعة المستمرة
• تعزيز ثقة المجتمع الدولي في أداء الدولة

خامسًا: نموذج عملي لربط المؤشرات بالاستراتيجية

1. مثال على مؤشر مرتبط بالحوكمة

مؤشر معدل نشر تقارير الإفصاح الحكومي

• الهدف: تعزيز الشفافية
• الصلة برؤية مصر 2030: محور الحوكمة
• الجهة المسؤولة: وحدات الشفافية داخل الوزارات
• القيمة المستهدفة: 100% نشر ربع سنوي
• الآلية: منصة الإفصاح الحكومية

2. مثال على مؤشر مرتبط بالتنمية المستدامة

معدل خفض الانبعاثات الكربونية في القطاع الصناعي

• الهدف: تعزيز الاستدامة البيئية
• الصلة برؤية 2030: محور البيئة
• الجهة المسؤولة: وزارة البيئة – القطاع الصناعي
• الأداة: خطة التحول الأخضر

سادسًا: التحديات التي تواجه المؤسسات المصرية في تطبيق KPIs

1. غياب البيانات الدقيقة والمحدثة
   بعض المؤسسات لا تملك قواعد بيانات موحدة.
2. ضعف القدرات البشرية في إعداد مؤشرات الأداء
   كثير من الإدارات تحتاج تدريبًا متخصصًا.
3. عدم وجود ثقافة تقييم الأداء
   البعض ينظر للقياس باعتباره أداة رقابية فقط.
4. عدم الربط الكامل بين المؤشرات والخطط الوطنية
   ما يؤدي إلى ضعف الأثر الحقيقي للمؤشرات.
5. غياب الحافز المؤسسي للتطوير
   لا توجد دائمًا حوافز مرتبطة بتحقيق المستهدفات.

سابعًا: توصيات لتعزيز ربط KPIs بالحكومة ورؤية مصر 2030

1. تطوير إطار وطني موحد لمؤشرات الأداء

يشمل:

• مؤشرات قياس حكومية
• مؤشرات اقتصادية
• مؤشرات بيئية واجتماعية
• مؤشرات رقمية وتحول رقمي

2. تدريب الكوادر الحكومية على تصميم المؤشرات

من خلال برامج معتمدة في التخطيط الاستراتيجي، مثل:

• Balanced Scorecard
• Logic Model
• Results-Based Management

3. بناء نظام رقمي موحد لإدارة الأداء

يضمن تحديث البيانات، وإصدار التقارير، وربطها بالجهات المعنية.

4. دمج مؤشرات الاستدامة في كل الجهات الحكومية

ولا تُترك فقط للوزارات البيئية أو التخطيط، بل يجب أن تدخل في عمل الوزارات الاقتصادية والخدمية.

5. تحفيز الإدارات الحكومية على تحسين الأداء

من خلال:

• جوائز التميز
• الحوافز المهنية
• نظام محاسبة قائم على الأرقام

خاتمة

إن ربط مؤشرات الأداء KPIs بالاستراتيجية الوطنية ورؤية مصر 2030 يمثل نقلة نوعية في إدارة الدولة المصرية، حيث لم تعد الخطط مجرد وثائق، بل أصبحت برامج تنفيذية يمكن قياسها وتحليل أثرها. وتأتي الحوكمة كركيزة أساسية لضمان فاعلية هذه المؤشرات، عبر تعزيز الشفافية، والمساءلة، والكفاءة، ونشر ثقافة اتخاذ القرار المبني على البيانات.

وكلما زادت قدرة المؤسسات على استخدام المؤشرات، زادت قدرتها على التأثير الفعلي في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. ومن هنا، يصبح نجاح رؤية مصر 2030 مرتبطًا بمدى قدرة الدولة على تكامل الحوكمة والقياس والتحسين المستمر، بما يضمن توجيه الجهود بطريقة استراتيجية تحقق النمو والتقدم والازدهار.

قائمة المراجع

1. وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية، "رؤية مصر 2030 – التحديث 2021".
2. اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة الفساد، "الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد 2023–2030".
3. وزارة التخطيط والإصلاح الإداري، "دليل الإدارة الاستراتيجية بالجهاز الإداري للدولة المصرية".
4. عبد الباري، أحمد (2022). "الحوكمة وتحسين الأداء المؤسسي". مجلة الإدارة العامة.
5. حسن، مروة (2021). "دور مؤشرات الأداء في دعم اتخاذ القرار الحكومي". مجلة البحوث الإدارية.
6. OECD (2019). Government at a Glance.
7. OECD (2015). Principles of Public Governance.
8. Kaplan, R. & Norton, D. (1996). The Balanced Scorecard: Translating Strategy into Action.
9. UNDP (2020). Governance for Sustainable Development.
10. United Nations (2015). Transforming our world: the 2030 Agenda for Sustainable Development.
11. World Bank (2021). Governance and the Law.