زهرة شوشة تكتب: إفريقيا على عتبة الحسين

في كل مرة أحتاج فيها أن أهدأ من نفسي واستعيد توازني أذهب لسبط رسول الله، أتمشى حول المشهد الحسيني.
في ذلك المكان الذي تشم فيه رائحة البخور وتسمع تراتيل و انغام الروح.
لمحت رجلا سودانيا يفترش الأرض بجوار بوابة الدخول في زاوية تطل على المقام الشريف.
كان أمامه سبح كثيرة... خشبية، داكنة و فاتحة غير لامعة، كأنها خرجت للتو من فرع شجرة عتيقة لم تذق يوما ماء.
الرجل لم يناد عليّ فقط يجلس بصمت وعيناه لا تبيعان… بل تحكيان.
وقفت أمامه فسألني بصوت منخفض :تحبي سبح" لالوب"؟
دي من شجرة سودانية نادرة...كانت جدتي تقول تدي هدوء وسكينة.
لم أشتر السبحة في البداية لأنني أحب سبح زيتون مصر…لكنني اشتريت الحكاية، وقبلتها روحي
حكى لي عن أم درمان عن الجدات، عن السوق عن الغناء،
عن زمن كانت فيه الحكاية رزقا.
قال لي:"في بلدنا… الراوي فوق الطبيب... الطبيب يداوي البدن والراوي يداوي الناس من النسيان... الراوي عندنا بيحكي لينا جذورنا بي بطولات جدودنا وتقواهم وبيقول لينا الزول المنسى قديمه بيتوه… وإحنا تيهنا وجينا لعتبة سيدنا عشان تردنا..."
تركته وهو يردد "يا جميل يا الله"
واكملت سيري لم أمشي خطواتي العشر... حتى لمحتها.
امرأة أفريقية، أعتقد من ملامحها أنها نيجيرية مرفوعة الرأس تجلس على كرسي بلا مسند تمسك خيوطا وتنده:"رستا ياقمر".
كانت صغيرتي تتمناها فوافقت لها.
جلست ابنتي بين يديها لتصنع لها ضفائر "الرستا".
وبجوارها امرأة سودانية ترسم الحنّة لفتاة مصرية.
والست ترسم لا بنقوش محفوظة بل بخيال فنان.
رغم أنها تعرض كتالوج رسومات قبل البدء لكن ينتهي بها الحال بعد فصال المصريات في السعر بأن تقول لهن:"أرسم لك حاجة بسيطة... رخيصة.
فترد المصرية بإنتصار:"نعم."!!
لكن ما أدهشني انها لم تكن مجرد رسومات بل زخارف تنبض.
قلت في سري:"دي ما بترسمش... دي فنانه بالفطرة"
اقتربت منها وسلمت لها يدي لتبدع عليها وسألتها:
"اتعلمت ترسمي الحنّة من مين؟"
قالت بابتسامة هادئة: من خالتي.
كانت تقولي: الحنّة مش رسم
الحنّة بتدعوا دعوة ستر وفرح للي يتحنّى بيها وفيها بركة للبدن...بس للقلب الحلو اللي زيك.
وقفت بين بائع السبح و راسمة الحنّة وصانعة الرستا الافريقية ورائحة البخور... احسست أنني ارتفع على بساط خفي يأخذني لحضرة اكبر من المكان ليرني أهل الله.
وشعرت ان أفريقيا نبض وروح يسري فينا هنا لا يوجد غريب كلنا عشاق نرجوا وصلا نتلمس نفخات وبركات آل البيت.
أفريقيا التي قالوا عنها فقيرة هي الأغنى بالحب بالعيون الحانية والجوه الطيبه في الحكايات التي تروى بقلوب تسكنها البركة.
في اليوم التالي، نظرت إلى يدي... بهتت الحنّة قليلا...لكن الرسم ظل موجودا يحكي لي السطور الأولى عن أفريقيا عن مقامات الحب و أوراد الصادقين عن باب الحكايات العتيقة التي سكنت الزمن من قديم الأزمان.