خطاب (2) : لا أحد ينام في القاهرة .. يا عبد الفتاح !
د . رضا شحاتة أبو المجد
القاهرة علمتنا دهاء الحياة وأعطتنا رحيق الوجود وبواطن التجارب الإنسانية بكل خبراتها المكثفة وكل أوجاعها ومباهجها ومشاعرها المزلزلة .. القاهرة مدينة الفوضي المنظمة .. مدينة الزحام والدخان .... الحياة في فوضاها جميلة والعواطف فيها جارفة .. وشوارعها تموج بالحركة والناس .. إيقاع الحياة فيها لا ينقطع هديره كموج البحر .. فالناس غارقون في الحركة علي مدار اليوم .
عزيزي عبد الفتاح .. أيها المغترب في القاهرة .. هل كانت القاهرة في السبعينيات مدينة بلا قلب.؟ هل تتذكر .. في شوارع القاهرة بالسبعينيات عيون القرويين والمغتربين دائماً خائفة نظراتها حائرة .. كنا نسير يا عبد الفتاح دون غاية نحدق في أسماء الشوارع ويافطات المحال والعمارات القديمة التي تجذب أنظارنا .. كنا نتأمل المآذن الطويلة وزخارف القباب العالية .. وكثيراً ما كنا نعبر الشوارع هائمين ونفيق من هذا الدوار وننتبه علي أبواق السيارات الطائشة .. التي ستفرمك تحت عجلاتها .. وفي قاهرة المعز القديمة كنا نتوه في دروبها وننسي الزمان .. ونفلت من ضجيج الشوارع المستقيمة .. في منتصف نهار القاهرة عربات الباعة الجائلين تستعمر فضاء المدينة وعند منتصف الليل تتحول القاهرة إلي جراج للسيارات كبير.
كنت شاهد علي هذا العصر يا عبد الفتاح ومتغيراته .. كنت مشتبكاً مع القاهرة اشتباكاً يومياً .. وبرغم ملوحة الكلمات ومرارتها التي كنت تكتبها عن المدينة لكنك كنت لا تفكر بالانقلاب علي القاهرة .. المدينة الصاخبة الجميلة .. يقول عبد الفتاح أمين في قصيدة .. "طائري الأزرق" شوارع الرعب ... القناديل المطفأة .. الأشباح .. تسكنني و كل ركن .. حتى المدفأة .
القاهرة مدينة لا يمكن السيطرة عليها .. عندما يأتي المساء في القاهرة كانت حياة ثقافية جديدة تولد .. وخرائط ديموغرافية مربكة للعقل تظهر للوجود .. كانت جغرافية القاهرة في الليل ترسم من جديد .. فالعشاق أما متواجدون في حفلة تسعة بسينمات نص البلد أو علي مقاعد كورنيش النيل .. طوائف المثقفين من الأدباء والفنانين متواجدون في مقهي ريش .. وزهرة البستان ..والندوة الثقافية .. علي بابا ..التكعيبة .. مقها متاتيا بالعتبة وأسترا .. وسوق الحمدية .. أتيليه القاهرة .. والعديد غيرهم من الأماكن في أحياء المدينة.
والعجيب في الأمر .. أن حركة الشعر وتطوره في السبعينيات كانت منزرعه في تلك المقاهي الثقافية .. فمع كل نهار جديد في مقاهي القاهرة كان يحمل لنا موضة أو لغة جديدة في الفن والأدب .. فساعة التجديد والثورة علي القديم لم تكن متوقفة في ليل القاهرة بالسبعينيات. أما السياح الأجانب من الفنانين والأدباء والمرافقين المصريين لهم .. فمكانهم مقهي الفيشاوي وزهراء الحسين .. وحارات خان الخليلي .. حيث كبايات الشاي بالنعناع الأخضر وأحزان فناجين القهوة .. والكراسي الممتدة علي الأرصفة .. الخمورجية الفقراء الباحثين عن النسيان وقعدة الصهللة في بارات العالم الخفي نجدهم علي امتداد شارع فؤاد بأبو العلا .. أما الفنانون وكمبارس السينما المصرية .. فهم يلتقون في قهوة "بعرة" خلف سينما كوزموس .. أما طائفة العوالم وموسيقي حسب الله معظمهم يتجمعون في مقاهي .. التجارة .. والمشير .. وحلاوتهم .. في شارع محمد علي .
في هذا العالم الجديد المختزن فينا يا صديقي ! كان الغرباء عن القاهرة مبهورين بعالم الأشباح والأضواء الليلية المثيرة .. ومع ذلك فهذا المناخ الثقافي وتلك العوالم العجيبة كنا نخشاها ونرصدها من بعيد ونتجنبها بالفطرة ودون سبب مفهوم .. هذه المقاهي التي كان يسكنها الجن والملائكة من المثقفين .. غيرت ملامح الفن في عصر السبعينيات الحالم بالحب والحرية .. حيث كانت القاهرة أكثر انفتاحاً علي الفن وأكثر فهماً لطبيعة التحول لحركة الأدب العالمي .
أما العجيب والغريب في حياة الليل بالقاهرة .. هي تلك المقاهي النوعية مثل قهوة "أم كلثوم" بالتوفيقية وروادها الذين يعشقون أغاني وصوت سيدة الغناء العربي .. قهوة "الخرس" وهو مكان هادئ يجتمع فيه الصم والبكم .. للتحدث بالإشارة وشرب الشاي في شارع عماد الدين. أما ميادين الهوي والرضا الواسعة بالقاهرة التي كانت مرتعاً للتسكع وانتظار الأصدقاء ولقاء المتحابين .. فكان ميدان التحرير قلب المدينة النابض .. في السبعينيات كان التحرير فضاء عاماُ يقصدونه الناس لقضاء الخدمات الحكومية .. والانطلاق منه إلي جميع أرجاء القاهرة .. أما ميدان رمسيس .. فهو فضاء للعابرين والمسافرين الغرباء ومكان ليافطات الإعلانات عن الصابون والشامبو وألبومات فناني السبعينيات .. وكان الميدان مكاناً للنصابين لاصطياد الغلابة من القرويين والصعايدة القادمين للقاهرة.
ومن الميادين الشعبية الكبيرة في القاهرة .. ميدان السيدة زينب والحسين والسيدة نفيسة والسيدة عائشة .. فهي أماكن عامة للشعب من الحرفيين والمهمشين والحرافيش والناس الغلابة المتناثرين في المقاهي الصغيرة .. وفي وسط هذه الميادين توجد العربات الملونة لفطائر السكر الساخنة وسندوتشات الكبدة والسجق وعربات الكشري والفول وبائعي الجرائد الليلية .. وفي الهوامش علي أطراف هذه الميادين .. الأضرحة الصغيرة والتكايا وضاربو الرمل وقارئو الكف إنها حياة المجاذيب الهائمة في ملكوت الله.. أما ليل وحياة القاهرة الأرستقراطية وناسها فلا نعرف عنهم شيئاً .. فالقاهرة مدينة ماكرة سحرية متعددة الحياوات.
يقول صديقي الرجل ذا الطربوش الأحمر: تغلغلت القاهرة بكل ثقافتها وناسها وأماكنها في مسام وحروف وكلمات الشاعر عبد الفتاح أمين .. فالقاهرة أرض انفعال وتوتر ولا يمكن لأي إنسان يمر بها أو يسكنها ويبقى محايداً في رؤيته للحياة .. ومع مرور الزمن .. لم نعد نتذكر الآن التفاصيل الصغيرة للحياة في قاهرة السبعينيات .. كل ما أذكره هو تلك الروح والمناخ الحيوي والملامح النفسية للناس في تلك الآونة .. رواية الشعر الأن .. والكتابة عنه ماهي إلا حالة استعادة واسترجاع لزمن أصبح من الذكريات .