من التاريخ.. الشاه إسماعيل الصفوي


يمثل تاريخ الدولة الصفوية في إيران منعطفاً مهماً في تاريخها، فمع قيامها اتخذت إيران المذهب الشيعي الإثنا عشري مذهباً رسمياً، وكان لهذا التحول آثاره البعيدة في تاريخ إيران خاصة، وتاريخ العالم الإسلامي عامة؛ وتأسست الدولة على يد إسماعيل الصفوي الذي يوافق اليوم ذكرى ميلاده.
هو أبو المظفر شاه إسماعيل الهادي الوالي، أو إسماعيل بن حيدر بن الجنيد الصفوي المولود في 25 رجب 892 ه الموافق 25 يوليو 1487، وهو سليل عائلة دينية لها تقدير واسع في أردبيل والمناطق المجاورة لها، ويرجع بعض المؤرخين أصل الصفويين إلى الإمام الكاظم، وبالتالي إلى الإمام علي بن أبي طالب، إلا ان هذا النسب كان دوماً عرضة للطعن و والخلاف بين المؤرخين.
اعتقل إسماعيل هو وأمه وإخوته بعد مقتل والده، وكان عمره عاماً واحداً، وبعد أن قضى وعائلته أربع سنوات في سجنهم في قلعة "اصطخر" اطلق سراحهم، وعاش في كنف "كاركيا ميرزا" حاكم "لاهيجان" الذي كان محباً للمسلمين الصفويين.
ظل إسماعيل الصفوي خمس سنوات تحت سمع الحاكم وبصره، حتى شبّ قوياً محباً للفروسية والقتال، وقادراً على القيادة والإدارة؛ بينما كانت الدولة تعيش فترة صراعات بين أفراد أسرة آق قويونلو التي كانت تحكم فارس آنذاك، وهو ما استغله أنصار الصفويين، وأمّروا عليهم إسماعيل الصفوي، وكان صغيراً لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، لكنه كان مهيأ للقيادة بفضل الرعاية التي أحاطه بها حاكم لاهيجان.
بعد انحسار الدولة التيمورية كانت بلاد فارس مقسمة سياسياً، مما أعطى الفرصة لصعود عدد من الحركات الدينية؛ وزوال سلطة تيمورلنك أفسح المجال للعديد من المجتمعات الدينية، خصوصاً الشيعية لتكتسب مقاماً مهماً، ومن بينها الجمعيات الصوفية، كالحروفية ونقطاويش وغيرها من الحركات، وكان الصفويين مرنيين سياسياً، أي أكثر تكيفاً مع المتغيرات السياسية، وبفضل نجاحهم حصل الشاه إسماعيل على مكانة سياسية مهمة عام 1501.
تمكن إسماعيل الصفوي وأنصاره من خوض عدة معارك ضد حكام بعض المناطق في إيران والتغلب عليهم، وتساقطت في يده كثير من المدن الإيرانية، وتوج جهوده بالاستيلاء على مدينة "تبريز" عاصمة آق قويونلو، ودخلها دخول الفاتحين، ثم أعلنها عاصمة لدولته، ليتم تتويجه ملكاً على إيران، ولقبه أعوانه بـ"أبي المظفر شاه إسماعيل الهادي الوالي"، وذلك في سنة 1502، وأصدروا العملة باسمه.
بعد أن فرغ الصفوي من تعديل دولته بدأ يوجه همه إلى تدعيم الوحدة السياسية لدولته، ويعد العدة ليضع يده على كل بلاد فارس، وكان لا بد من الاصطدام بقبائل الأوزبك التي كانت تموج في المناطق الشمالية الشرقية من فارس وتعتنق المذهب السني، وتحت زعامة محمد شيباني الذي نجح في أن يقيم ملكاً على حساب الدولة التيمورية، وأن يستولى على عاصمتها "سمرقند" وأن يمد سيطرته على "هراة" في مطلع سنة 1507؛ ليُصبح الأوزبك وجهاً لوجه أمام الشاه، وزاد من الصراع بينهما التراشق المذهبي بينهما، وبلغ من اعتداد محمد شيباني أن أرسل إلى إسماعيل الصفوي يدعوه إلى ترك المذهب الشيعي والعودة إلى مذهب السنة والجماعة، ويهدده بحرب ضروس في قلب إيران ذاتها، وبهذا أصبح لا مفر من الحرب بينهما.
كان شيباني يتصف بالجرأة والإقدام، لكنه لم يكن على مستوى عدوه إسماعيل الصفوي في المراوغة والخداع في الحروب، فاستغل إسماعيل ذلك، وجرَّ خصمه إلى معركة كان قد استعد لها تماما، وتمكن من إلحاق هزيمة مدوية به في "محمود آباد" -وهي قرية تبعد قليلا عن مرو- وذلك في سنة 1510؛ وقتل شيباني نفسه في المعركة، وبعد مقتله أعمل إسماعيل الصفوي القتل في أهل مرو، وأمضى فصل الشتاء في هراة، وأعلن فيها المذهب الشيعي مذهباً رسمياً، على الرغم من أن أهالي هذه المناطق كانت تدين بالمذهب السني.
اتسمت العلاقات بين الدولة الصفوية الناشئة والعثمانيين بالهدوء، وساعد على ذلك أن السلطان بايزيد الثاني الذي تولى بعد محمد الفاتح كان رجلاً يحب السلام ويحب الأدب والفلسفة، ويميل إلى دعم العلاقات العثمانية الصفوية؛ لكنه حين علم أن إسماعيل الصفوي يتمادى في إلحاق الأذى بالسنة، مما جعلهم يهربون إلى الأراضي العثمانية كتب إليه أن يلتزم بالعقل والحكمة في معاملتهم؛ ومع تولي السلطان سليم الأول مقاليد الحكم في الدولة العثمانية ازداد التوتر بين الدولتين، وكان سليم الأول ينظر بعين الارتياب إلى تحركات الصفويين، ويخشى من تنامي قوتهم وتهديدهم لدولته؛ فعزم على مهاجمة خصمه وتسديد ضربة قوية قبل أن يستعد للنزال.
جمع سليم الأول رجال الحرب والعلماء والوزراء في مدينة أدرنة عام 1514، وذكر لهم خطورة إسماعيل الصفوي وحكومته الشيعية في إيران، وأنه اعتدى على حدود الدولة العثمانية، وأنه فصل بدولته الشيعية المسلمين السنيين في وسط آسيا والهند وأفغانستان عن إخوانهم في تركيا والعراق ومصر، ولم يجد السلطان العثماني صعوبة في إقناع الحاضرين بضرورة محاربة الصفويين؛ لأنهم صاروا خطراً داهماً يهدد وجود العثمانيين، وخرج بعد ثلاثة أيام من هذا الاجتماع على رأس جيش كبير متجهاً إلى إيران، ولم ينس وهو في طريقه أن يكتب إلى عبيد الله خان قائد الأوزبك يذكره بقتل عمه شيباني، ويحثه على الانتقام من إسماعيل الصفوي، ومهاجمة خراسان بمجرد وصول الجيش العثماني إلى إيران، وكان هدف سليم من ذلك أن يجعل إيران بين شقي الرحى من الغرب بهجومه، ومن الشرق بهجوم عبيد الله خان على خراسان.
حين علم إسماعيل الصفوي بقدوم القوات العثمانية -وكان مشغولاً بإخراج الأوزبك من خراسان- عمل على تعطيل وصولها، فأمر بتخريب الطرق والقرى الواقعة في طريق الجيش العثماني؛ الأمر الذي أخّر وصول العثمانيين وأنهك قواهم، لكن ذلك لم يمنعهم من مواصلة السير إلى إيران، والإقامة في "سيواس" انتظاراً للمعركة الحاسمة.
لم يبد إسماعيل الصفوي حماساً للمعركة، وحاول أن يتجنب ملاقاة العثمانيين باستدراج الجيش العثماني إلى داخل إيران، ليقطع خطوط الإمدادات عليه، لكن سليم الأول كان منتبها لما يدور في ذهن خصمه، فعزم على الإسراع في لقاء الصفويين، وخاصة بعد أن بدأ التذمر يشق طريقه إلى جنود العثمانيين من طول الانتظار وكثرة الانتقال من مكان إلى آخر.
التقى الفريقان في صحراء جالديران في شرق الأناضول في عام 1514 وانتهت المعركة بهزيمة إسماعيل الصفوي هزيمة نكراء، وفراره من أرض المعركة إلى أذربيجان، ووقوع كثير من قواده في الأسر، ليدخل سليم الأول مدينة تبريز عاصمة الصفويين واستولى على أموال إسماعيل الصفوي وبعث بها إلى إستانبول، ثم قفل راجعا إلى بلاده، مكتفيا بهذا النصر الكبير، غير راغب في اقتفاء أثر إسماعيل الصفوي والتوغل في بلاده.
وعلى الرغم من الهزيمة المدوية التي لحقت بإسماعيل الصفوي، فإنها لم تحسم الصراع لصالح العثمانيين، وظل كل طرف يتربص بالآخر وينتهز الفرصة للانقضاض عليه، ونظرا لفداحة خسائر الصفويين؛ فقد حاول إسماعيل الصفوي أن يبرم صلحاً مع السلطان سليم الأول، لكن محاولته لم تلق قبولاً لدى السلطان العثماني.
وترتب على انتصار سليم الأول أن نهض رؤساء شمال العراق -وهم من الشافعية السنة- لمساندة العثمانيين، فلم يمض وقت طويل حتى انضمت 25 مدينة للحكم العثماني، على الرغم من الاستحكامات العسكرية التي أقامها الصفويون بها، فتوسع العثمانيون وضموا إليهم ديار بكر وسائر مدن شمال العراق حتى أصبح الجزء الأكبر من أراضي شمال العراق في يد العثمانيين، وأصبح الإيرانيون وجهاً لوجه أمام العثمانيين، وبات من الصعب على الصفويين التوسع على حساب العثمانيين.
وعلى صعيد الشاه نفسه، تركت الهزيمة التي لقيها إسماعيل الصفوي آثاراً قاسية في نفسه، ولم يكن قد لحقت به هزيمة قبل ذلك، وشغل نفسه بالتفكير في طريقة الانتقام من غريمه سليم الأول، إلا أن المنية عاجلت سليم الأول عام 1520 وهو في طريقه لغزو إيران مرة أخرى؛ ما شجع الصفوي على أن تستحكم منه الرغبة في الانتقام من العثمانيين من جديد، غير أن الموت اغتال أمنياته؛ فمات متأثراً بالسل وعمره سبعة وثلاثون عاما في 18 رجب 930 ه الموافق 23 مايو 1524 على مقربة من أذربيجان، ودفن في أردبيل إلى جوار أجداده، وخلفه في الحكم طهماسب الأول.