دكتورة فاتن فتحي تكتب : التمريض المنزلي بين لزوميات الواجب الأخلاقي والصورة الذهنية الخاطئة لدى المجتمع

دكتورة فاتن فتحي تكتب : التمريض المنزلي بين لزوميات الواجب الأخلاقي والصورة الذهنية الخاطئة لدى المجتمع
الثقافة المجتمعية، تدني الرواتب، ضعف التدريب وانخفاض التقنية أبرز الصعوبات
التمريض المنزلي أحد الركائز الأساسية في نظام الرعاية الصحية الحديثة، خاصة في ظل تزايد أعداد كبار السن والمرضى الذين يحتاجون إلى متابعة مستمرة خارج المؤسسات الصحية التقليدية. ومع الانتشار المتزايد لخدمات التمريض المنزلي، يواجه ممارسو هذا المجال مجموعة من التحديات التي تؤثر على جودة الرعاية المقدمة وعلى راحة المريض والممارس على حد سواء. في هذه المقالة نسلط الضوء على أبرز الصعوبات التي تواجه مقدمي الرعاية الصحية في المنازل، مستعرضين إحصائيات حديثة وتوصيات مهنية لتجاوز هذه العقبات، مستندين إلى مصادر موثوقة مثل منظمة الصحة العالمية والتقارير الصحية الوطنية والدولية.
يُعد نقص التدريب والتأهيل المهني من أبرز العقبات التي يواجهها ممارسو التمريض المنزلي وفقًا لتقرير منظمة الصحة العالمية الصادر عام 2023 حيث أظهرت دراسة شملت أكثر من خمسة آلاف ممرض وممرضة يعملون في التمريض المنزلي في 12 دولة أن 47٪ منهم يشعرون بعدم كفاية التدريب للتعامل مع الحالات الطبية المتنوعة التي يواجهونها في بيئة غير مستقرة كالمنزل مقارنة بالمستشفى الذي يحتوي على دعم طبي متكامل. ويعود ذلك إلى الطبيعة المعقدة التي تتطلب مهارات فنية متخصصة وإلمامًا واسعًا بالإجراءات الإسعافية والتعامل مع الأدوية والمعدات الطبية، بالإضافة إلى التعامل النفسي مع المرضى وعائلاتهم. وتظهر البيانات أن البرامج التدريبية المخصصة للتمريض المنزلي لا تحظى بالاهتمام الكافي في العديد من البلدان، وهو ما يجعل التأهيل مستمرًا غير متكامل، وهذا ينعكس سلبًا على جودة الخدمة وسلامة المرضى.
جانب آخر هام هو العبء النفسي والاجتماعي الذي يقع على عاتق ممارسي التمريض المنزلي، حيث أظهرت إحصائيات جمعية التمريض الأمريكية لعام 2024 أن حوالي 62٪ من ممارسي التمريض المنزلي يعانون من إرهاق نفسي أو احتراق وظيفي نتيجة ضغط العمل المستمر والحاجة إلى التعامل مع حالات حرجة وأحيانًا صعبة نفسيا مثل المرضى المصابين بأمراض مزمنة أو اضطرابات نفسية. ويؤكد الخبراء أن العمل في بيئة منزلية متعددة الظروف يفرض على الممرضات والممرضين تحديات غير موجودة في المستشفيات مثل التعامل مع نقص الموارد، الافتقار إلى الدعم الطبي الفوري، وصعوبة الفصل بين الحياة المهنية والشخصية بسبب التداخل المكاني. ولمواجهة ذلك ينصح العديد من المختصين بضرورة توفير برامج دعم نفسي للممارسين بالإضافة إلى إنشاء مجموعات دعم مهنية واجتماعية تساعد في تخفيف الضغوط النفسية وتوفير بيئة تواصل تتيح تبادل الخبرات والمشاعر.
تعتبر صعوبة التنقل والوصول إلى المرضى في المناطق الريفية أو النائية من التحديات اللوجستية البارزة، حيث أفاد تقرير المركز الوطني للصحة الريفية في الولايات المتحدة عام 2022 أن أكثر من 30٪ من خدمات التمريض المنزلي تتأثر سلبًا بصعوبات التنقل التي تعيق تقديم الرعاية في الوقت المناسب. وتمثل الطرق الوعرة، بعد المسافات، ونقص وسائل النقل الملائمة عقبات حقيقية تضعف القدرة على الاستجابة السريعة لحالات الطوارئ. ولتجاوز هذا التحدي، تم تطبيق عدة حلول مبتكرة مثل استخدام خدمات التمريض المتنقل، تقنيات الاتصال عن بُعد مثل التمريض الافتراضي، واستحداث برامج تدريبية لتعليم الممرضين مهارات القيادة والاعتماد على الخرائط الذكية لتسهيل التنقل والوصول الفعال.
أما على المستوى التقني، فإن استخدام المعدات الطبية المنزلية يمثل تحديًا هامًا آخر، حيث بينت دراسة أجرتها الجمعية الأوروبية للتمريض المنزلي في 2023 أن حوالي 40٪ من الممرضين أبلغوا عن صعوبات في التعامل مع الأجهزة الطبية الحديثة كالأنابيب التغذوية وأجهزة التنفس الصناعي، بالإضافة إلى مشاكل صيانة هذه المعدات أو نقص القطع الاحتياطية مما يعرقل تقديم الخدمة بالشكل المطلوب. كما أن بعض المرضى وعائلاتهم يفتقرون إلى المعرفة الكافية باستخدام هذه الأجهزة، مما يزيد العبء على الممرض. لذلك يشدد الخبراء على ضرورة توفير تدريبات مستمرة ومصادر تعليمية سهلة الاستخدام لكل من الممرضين والمرضى لضمان الاستخدام الآمن والفعال.
تتزامن هذه التحديات مع قضايا تنظيمية وتشريعية تتعلق بوضع قوانين صارمة وواضحة تنظم عمل التمريض المنزلي، وتضمن حقوق الممرضين والمرضى على حد سواء. وتشير إحصائيات صادرة عن المجلس الدولي للتمريض عام 2024 إلى أن 65٪ من ممارسي التمريض المنزلي يعملون في بيئات تفتقر إلى التنظيم القانوني الكافي، مما يفتح المجال لأخطاء مهنية ويؤثر على جودة الرعاية. من هنا، تطالب العديد من المؤسسات الصحية والحكومات بسن قوانين محددة تُلزم التسجيل الرسمي للممرضين العاملين في المنازل، وتفرض اشتراطات تأهيلية، مع ضمان توفير التغطية التأمينية والحقوق العمالية المناسبة لهم. إن وجود أطر تنظيمية واضحة يساعد في رفع مستوى المهنية ويخلق بيئة عمل آمنة ومستقرة، وهو أمر أساسي لضمان استمرارية تقديم خدمات ذات جودة.
لا بد أن نؤكد كذلك على أمر بالغ الأهمية ، إذ تشكل الصورة الذهنية المغلوطة لدى المجتمع عن التمريض المنزلي أحد الضغوط النفسية والاجتماعية التي تؤثر بشكل مباشر على أداء الممرضين والممرضات في هذا المجال الحيوي. فغالبًا ما يُنظر إلى التمريض المنزلي باعتباره مهنة "ثانوية" أو أقل قيمة مقارنة بالعمل في المستشفيات، ويُساء فهم طبيعة مهام الممرضين، مما يؤدي إلى نقص التقدير والاحترام اللازمين. أظهرت دراسة أجرتها الجمعية الوطنية للتمريض في الولايات المتحدة عام 2023 أن حوالي 54٪ من ممارسي التمريض المنزلي يشعرون بأن المجتمع يقلل من مهنيتهم وأهميتهم، مما يسبب لهم شعورًا بالعزلة المهنية وانخفاض الحافز. كما أشار تقرير لمنظمة الصحة العالمية في 2024 إلى أن هذه الصورة النمطية تساهم في ضعف جذب الكوادر الجديدة إلى هذا المجال بنسبة تراجع وصلت إلى 28٪ خلال السنوات الخمس الماضية في بعض الدول، بسبب قلة الدعم الاجتماعي والاعتراف المهني. هذا الواقع يزيد من العبء النفسي على الممارسين، ويؤثر سلبًا على جودة الرعاية المقدمة، إذ يواجه الممرضون تحديات إضافية في بناء الثقة مع المرضى وعائلاتهم، وهو ما ينعكس في معدلات رضا المرضى التي سجلت انخفاضًا بنسبة 15٪ في المناطق التي تنتشر فيها هذه الصورة الذهنية السلبية
أخيرًا، لا يمكن إغفال البُعد الاقتصادي الذي يشكل تحديًا كبيرًا في مجال التمريض المنزلي، إذ تشير بيانات مؤسسة الصحة العالمية إلى أن تكلفة الرعاية المنزلية تفوق في كثير من الأحيان إمكانيات المرضى خاصة في البلدان النامية. كما أن تدني رواتب الممرضين في هذا المجال وقلة الحوافز المالية يساهم في تدني مستوى الخدمة ويدفع الكثيرين للابتعاد عن العمل في التمريض المنزلي. لذلك تعتبر حلول تمويلية مبتكرة ضرورية مثل دعم برامج التأمين الصحي الشامل، وتوفير منح حكومية، وإطلاق مبادرات خاصة من القطاع الخاص تعزز الاستثمار في هذا القطاع الحيوي.
في الختام، تتطلب مواجهة التحديات التي يواجهها ممارسو التمريض المنزلي جهدًا متكاملًا يشمل تدريبًا مستمرًا، دعمًا نفسيًا، تحسين البنية التحتية، تحديث التشريعات، وتوفير الدعم الاقتصادي، مما يساهم في تحسين جودة الرعاية الصحية المقدمة في المنازل ويعزز من قدرة الممرضين على أداء مهامهم بكفاءة وأمان. إن الاعتراف بهذه التحديات والبحث عن حلول واقعية وفعالة يفتح الباب أمام تطوير نظام تمريض منزلي متين ومستدام يلبي حاجات المرضى والمجتمع بشكل أفضل.