عن فيلم (الأيرلندي The Irishman):
عبد العزيز الشناوى
من الناحية السينمائية: شاهدت ما يشبه المبارزة بين العمالقة (دي نيرون 76 عام، وآل باتشينو 79 عام، وجو باشي 76 عام)، كانوا بيتبارزوا في إظهار مواهبهم، ولو ضمينا رابعهم المخرج المبدع (سكورسيزي 77 عام)، فنحن أمام مباراة استعراضية أشبه بمباريات الاعتزال للرباعي المخضرم، ولو اكتفوا بهذا الفيلم لنهاية مسيرتهم الفنية، حيبقى مسك الختام بجد.
شوفنا تقمص ممتاز من دي نيرو لشخصية المجرم فرانك شيران، يخلينا نستشعر ان دي نيرو نفسه كان أحد قيادات المافيا بالفعل .. وشوفنا جو باشي وهو بيبدع في دور أقرب للعراب زعيم العصابة المتجرد من كل المشاعر والمحافظ فقط على مصلحة منظمته الإجرامية ومصالحها، ووصل الحال بالبعض للتعاطف مع نهاية جيمي هوفا الزعيم العمالي بسبب براعة أداء آل باتشينو للدور.
الثلاثي سينافس بشدة على جواز الأوسكار القادم، ولو أن الثنائي المساعد لديهما اللفرصة الأكبر في فوز أحدهما بجائزة أحسن ممثل مساعد.
سكورسيزي، مخرج مبدع بشكل إعجازي، استطاع أن يوظف ثلاثة عواجيز على مشارف الثمانين من عمرهم، وأظهرهم في مشاهد شباب في مقتبل العمر، باستخدام تقنيات وميكياج ممتاز!
سرد سينمائي ممتع، قدر يشدنا لمدة أكثر من ثلاث ساعات دون ملل، ودون أن يترك لنا الفرصة لمغادرة الفيلم وإلا سقطت منا أجزاء. أكثر من ثلاثاث ساعات من السرد السينمائي المتماسك والمترابط، جعل المشاهد لا يلتفت عن الشاشة حتى لا يتوه عن المتابعة، فكانت كل جملة من الفيلم مهمة وكل مشهد مهم، فغاب الشعور بطول الفيلم!
موسيقى مبدعة جدا، ومختارة بعناية شديدة، جعلتنا إلى جانب الملابس والديكور والسيارات، نعيش وكأننا نشاهد فيلما من أفلام السبعينات بالفعل، أو نقرأ رواية مكتوبة في تللك الحقبة الزمنية!
في نظري .. فيلم الأيرلندي، مؤهل جدا لينال عدة جوائز في الأوسكار القادم، وسينافس بشدة على جائزة: (أحسن فيلم، وأحسن إخراج، وأحسن ممثل مساعد "آل باتشينو أو جو باشي"، وأحسن موسيقى، وأحسن تصوير، وأحسن ملابس، وأحسن ميكياج..... وغيرها) وقد يحصل دي نيرو على أحسن ممثل ولو أن المنافسة بينه وبين واكين فينيكس (الجوكر) ستكون شديدة، وربما يعيب أداء دي نيرو بعض المشاهد التي ظهر فيها وكأنه أكبر سنا من القيام بها مثل مشهد ضربه للبائع "كان مش قادر يحرك رجله بسرعة كافية ليظهر وهو شاب!".
- من ناحية الموضوع: الفيلم منقول من كتاب (سمعت أنك تطلي المنازل) لمؤلفه، تشارلز براندت، وهو المدعي العام الأمريكي الأسبق _ فترة اختفاء جيمي هوفا_، وقال إن الكتاب عبارة عن اعتراف فرانك شيران في أواخر أيامه، وأقرب للمذكرات، وليس رواية من وحي الخيال.
الفيلم متصنف إنه سيرة ذاتية لفرانك شيران، القيادي العمالي الأمريكي، والمعروف عنه علاقته بالمافيا.
الفيلم بيقول بوضوح شديد، وواقعية، إن هو ده النظام الأمريكي .. محض عصابات .. عصابة سياسية بتحكم الدولة، وعصابة بتحكم النقابات، وعصابات مافيا بتحكم عالم الجريمة المنظمة .. الثلاثي العصابي ده هو المكون الأشمل للنظام الأمريكي، وهو القانون ولا قانون فوقه!
المخرج أراد إرسال رسالة واضحة، أن المجرم من داخل هذا النظام غير قابل للمحاسبة على جرائمه الحقيقية، ولا يشعر بأي ندم على جرائمه وهو يقوم بكل تلك الجرائم من أجلل البقاء على النظام وتحقيق مصلحته .. التصوير أجاد جدا في إيصال تلك الرسالة، عبر إظهار فرانك شيران في جميع مشاهده على أنه رجل كبير الحجم ولا ينكسر، حتى لحظة سقوطه على الأرض في أواخر الفيلم، كانت الكاميرا تكاد تكون على الأرض حتى لا يظهره بموقف المنكسر من المرض!
لم نشاهد لحظة لـفرانك شيران منكسر أو ينظر إلى الأرض، سوى المشاهد اللي جمعته مع بنته، كأنها تمثل الضمير أو البراءة في الفيلم، وتعمد المخرج ألا يجمع بينهما في حوار أخلاقي!
موضوع الفيلم رائع .. وتلميحاته عن علاقة كيندي ونيكسون بالمافيا صريحة جدا، والمخرج أبدع في كشف عورة النظام الأمريكي .. وسوف يظل لغز اختفاء جيمي هوفا مثل لغز مقتل جون كيندي، شئ غير قابل للحسم، ولعلها تكون الإرادة الامريكية لعدم الكشف الرسمي للعورة!!!.