مالك السعيد المحامي يكتب: إشكاليات الوصية الرقمية .. دعوة لتنظيم تُورَّيث الأصول والأرباح الإلكترونية بعد الوفاة

في زمنٍ صار فيه الوجود الافتراضي امتدادًا مؤكداً ولازماً للوجود الواقعي، برز سؤال جديد لم يكن مطروحًا قبل عقدين فقط: ماذا يحدث لحساباتنا وممتلكاتنا الرقمية بعد الوفاة؟ لقد تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى أرشيف ضخم لحيواتنا، يحوي ذكريات وصورًا ومحادثات وملفات وأحيانًا أموالًا رقمية وأصولًا مشفرة. ومع تصاعد القيمة الاقتصادية والاجتماعية للهوية الرقمية، بدأت فكرة الوصية الرقمية تفرض نفسها كضرورة قانونية وأخلاقية جديدة في العالم المعاصر
تشير دراسة أعدتها مؤسسة «ديجيتال بيوند» الأمريكية عام 2024 إلى أن أكثر من 1.5 مليار حساب على فيسبوك تخص أشخاصًا متوفين، وأن المنصة ستضم بحلول 2100 ما يقرب من 4.9 مليار حساب ميت إذا استمرت المعدلات الحالية. بينما أعلنت شركة «ميتا» أن نحو 30 مليون مستخدم سنويًا يموتون دون تحديد مصير بياناتهم أو السماح لورثتهم بإدارتها. هذه الأرقام تفتح بابًا واسعًا للسؤال: من يرث الأصول الرقمية؟ ومن له الحق في الوصول إليها أو حذفها؟
في الجانب القانوني، لا تزال معظم التشريعات متأخرة عن الواقع الرقمي. فبحسب تقرير الاتحاد الدولي للاتصالات لعام 2023، لا تمتلك سوى 20% من دول العالم قوانين صريحة تنظم الإرث الرقمي، في حين تترك أغلب الدول المسألة لاجتهاد المحاكم أو لسياسات الشركات. الولايات المتحدة تُعد من أوائل الدول التي وضعت إطارًا تشريعيًا لذلك عبر قانون «RUFADAA» الذي يتيح للورثة الوصول إلى بيانات المتوفى إذا أوصى بذلك صراحة. أما الاتحاد الأوروبي فيعتمد على اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) التي تحمي خصوصية المستخدم بعد وفاته وتحد من وصول الآخرين إلى بياناته.
أما في العالم العربي، فالمشهد أكثر تعقيدًا. فالقوانين في مصر والسعودية والإمارات لا تتضمن نصوصًا واضحة عن الإرث الرقمي، رغم أن الإمارات أعلنت عام 2022 عن نيتها دراسة «تنظيم الأصول الرقمية بعد الوفاة». وفي غياب تشريع شامل، تلجأ الشركات إلى إجراءاتها الخاصة: فيسبوك يتيح تحويل الحساب إلى حساب تذكاري بإدارة شخص يختاره المستخدم مسبقًا، وجوجل أطلقت خدمة Inactive Account Manager التي تتيح تحديد من يرث البيانات بعد فترة من عدم النشاط، بينما تويتر وإنستغرام يكتفيان بتجميد الحساب بناء على إخطار رسمي بالوفاة.
القيمة الاقتصادية للوصية الرقمية أصبحت ملموسة مع انتشار العملات المشفرة والمحتوى المدفوع والأعمال الرقمية. فبحسب تقرير «تشين أناليسيس» لعام 2024، هناك ما يزيد عن 4 ملايين بيتكوين مفقودة تعود لمستخدمين توفوا دون مشاركة مفاتيحهم الخاصة مع أحد، أي ما يعادل نحو 170 مليار دولار ضاعت للأبد. هذه الخسائر كشفت أهمية التخطيط الرقمي المسبق تمامًا كالتخطيط المالي أو العقاري.
البعد الإنساني للموضوع لا يقل أهمية. فالحسابات الرقمية لم تعد مجرد أدوات تواصل بل أصبحت سجلًا عاطفيًا وذاكرة جماعية للأحياء والأموات على السواء. دراسات علم النفس الرقمي ترى أن المحتوى التذكاري يساعد ذوي المتوفى في عملية الحداد، إذ يتفاعلون مع صفحاته ويتبادلون الذكريات كما لو كان حاضرًا بينهم. ومع ذلك، يثير الأمر أيضًا إشكاليات الخصوصية والاحترام بعد الوفاة، فليس كل ما شاركه الإنسان في حياته يُفترض أن يبقى بعد رحيله.
من هنا تنشأ الحاجة إلى ثقافة جديدة هي ثقافة الوصية الرقمية، التي تبدأ من وعي الفرد بأصوله الإلكترونية: البريد الإلكتروني، الحسابات البنكية الرقمية، محافظ العملات المشفرة، الصور والمستندات السحابية، وحتى الحسابات الترفيهية. وتوصي المنظمات الرقمية بأن يضع المستخدم خطة تتضمن:" قائمة بالممتلكات الرقمية المهمة - كلمات المرور أو تعليمات الوصول الآمن - شخص موثوق لإدارة هذه الأصول بعد الوفاة - وصية قانونية مرفقة ببيان يوضح نية المستخدم بوضوح.
في هذا الإطار، بدأت بعض الشركات القانونية في العالم بتقديم خدمات "الوصية الرقمية المؤتمتة"، حيث تُخزَّن بيانات المستخدم وتُرسل تلقائيًا للشخص الموصى له عند تحقق الوفاة عبر خوارزميات تحقق تعتمد على الذكاء الاصطناعي وربط البيانات الحكومية. كما ظهرت شركات ناشئة تقدم خدمات “الحياة الرقمية بعد الموت”، مثل شركات Replika- و -HereAfter AI التي تبني نموذجًا ذكيًا يتحدث بصوت الشخص المتوفى ويحتفظ بذكرياته، وهو ما يفتح نقاشًا فلسفيًا جديدًا حول الحدود بين الإنسان والآلة، والوعي والذاكرة.
في المقابل، يحذر خبراء الأمن السيبراني من مخاطر مشاركة كلمات المرور أو البيانات الحساسة في الوصايا الرقمية، إذ يمكن أن تُستغل أو تُسرق. ولذلك يقترح البعض الاعتماد على التشفير المزدوج أو إدارة المفاتيح من خلال بنوك بيانات محمية قانونيًا.
أما في السياق المصري ونظراً لثراء المجتمع بعشرات الآلاف من النجوم والرموز الشهيرة فى الوقع الحقيقي والافتراضي، فتبدو الحاجة ملحّة لوضع إطار تشريعي واضح ينظّم الوصية الرقمية ضمن منظومة الأحوال الشخصية وحماية البيانات. يمكن لمصر أن تتبنى قانونًا خاصًا بالأصول الرقمية يشمل تعريفًا دقيقًا لما يُعد «ملكية رقمية» من حسابات ومحتوى وأرصدة وأكواد وصول، مع تحديد آليات التصرف فيها بعد الوفاة. كما يُقترح إنشاء سجل وطني للوصايا الرقمية بإشراف وزارة العدل، يُتيح للمواطن تسجيل وصيته إلكترونيًا وربطها ببطاقته القومية، بحيث تُفعّل تلقائيًا بعد التحقق من الوفاة.
إلى جانب ذلك، يمكن للبنك المركزي والجهاز القومي لتنظيم الاتصالات إلزام الشركات والبنوك الرقمية بوضع سياسات صريحة حول إدارة حسابات المتوفين، مع منح الورثة حقًا قانونيًا محدودًا في الوصول للبيانات ذات الطابع المالي فقط، مع احترام الخصوصية الشخصية. كما يمكن للمجلس الأعلى للإعلام والجهات الدينية المشاركة في صياغة مدوّنة أخلاقية تنظّم التعامل مع حسابات الموتى وتوازن بين حق الأسرة في التذكار وحق الفرد في الخصوصية بعد وفاته.
في النهاية، يمكن القول أن الوصايا الرقمية لم تعد ترفًا فكريًا بل أصبحت ضرورة واقعية في عصر تندمج فيه الحياة الواقعية بالافتراضية. فكما يوصي الإنسان بأمواله وممتلكاته المادية، أصبح عليه اليوم أن يوصي بتراثه الرقمي أيضًا — حفاظًا على خصوصيته، وصونًا لذاكرته، وضمانًا لاستمرار إرثه الإنساني في العالم الرقمي الذي لا ينسى.