مصير المقاومة الفلسطينية !
بقلم عبد الحليم قنديل
حتى لو انتهت مفاوضات المرحلة الأولى من "خطة ترامب" إلى نتائج منظورة ، وجرى تبادل الأسرى والانسحاب "الإسرائيلى" الجزئى الأول من "غزة" وإدخال المساعدات مع وقف إطلاق النار ، فإن أحدا عاقلا لا يتصور ، أن تكون قصة الحرب التى بدأت فى السابع من أكتوبر 2023 قد انتهت ، حتى لو جرى الدخول المشكوك فيه إلى ترتيبات المراحل التالية ، ووضع "غزة" عنوة تحت الوصاية والانتداب الأجنبى ، فكل ذلك عمل مضاد للطبيعة الأصلية للقضية الفلسطينية كصراع طويل المدى ، جوهره التحرر الوطنى الفلسطينى من ربقة استعمار استيطانى إحلالى إفنائى ، لا يقبل التحايل على حقيقته بإجراءات تبدو إنسانية فى ظاهرها ، وتصور الوضع الفلسطينى كحظ عاثر ومأساة إنسانية ، تزول بتطبيب جراح أهل ربع مليون شهيد وجريح ومفقود فلسطينى فى جولة الحرب الأخيرة ، أو بإعادة بناء غزة المدمرة حجرا وبشرا على نحو شبه كامل ، ولا بتخفيف تعب الموجوعين مقابل نزع "فلسطينية" فلسطين ، ذلك أن "غزة" الصغيرة هى فلسطين كلها مكثفة مبلورة ، وهكذا كانت "غزة" دائما فى التاريخ الفلسطينى المعاصر والحاضر ، وهكذا ستكون فى المستقبل بآلامه وأشواكه وأشواقه .
ولا نظن أن الأحاديث ـ ربما الثرثرات ـ قد تنتهى قريبا عن ما جرى ويجرى منذ عملية "حماس" وأخواتها صباح السابع من أكتوبر قبل عامين ، سبقهما ميراث 75 سنة مثقلة بالدم والدموع والمجازر والتهجير ، يريد البعض حجبها عن الوعى والقلوب والأبصار ، ويحصر القصة الفلسطينية فى عملية "الكوماندوز" ، واختراق طلائع "غزة" لقلب كيان الاحتلال فى مفاجأة مذهلة ، ثم الرد عليها بحرب الإبادة الأمريكية "الإسرائيلية" بدعوى الانتقام ، بينما لم تكن القصة كذلك ، فحروب الإبادة طبع جوهرى تكوينى فى كيان الاحتلال ، ولا يتسع المقام لسرد قصص مئات المجازر منذ "دير ياسين" إلى محرقة "غزة" ، و150 ألفا من الفلسطينيين استشهدوا قبل السابع من أكتوبر ، ومليون فلسطينى طردوا فى نكبة 1948 تناسلوا إلى نحو ثمانية ملايين لاجئ اليوم ، ومليون فلسطينى جرى أسرهم "إسرائيليا" منذ حرب 1967 ، ولم تكن العدوانية "الإسرائيلية" الهمجية الإبادية وليدة صباح السابع من أكتوبر ، سواء فى "غزة" التى شنت عليها أربعة حروب تدمير قبل الحرب الأخيرة المتصلة ، ولا فى الضفة والقدس المحتلة منذ يونيو 1967 ، وقد توحش فيها الاستيطان وتهويد الأرض بالجملة بعد "أوسلو" وتوابعها ، وحتى قارب عدد المستوطنين فيها رقم المليون مستعمر ، كان ذلك من أحلام الإرهابى "الليكودى" "إسحاق شامير" رئيس وزراء الكيان وقت مفاوضات "مدريد" أوائل تسعينيات القرن الماضى ، وأعاد مجرم الحرب "بنيامين نتنياهو" تجديد حلم شامير فى كتابه (مكان تحت الشمس) الصادر لأول مرة عام 1993 ، وحتى قبل السابع من أكتوبر 2023 بأسابيع ، كان "نتنياهو" فى الاجتماع السنوى للجمعية العامة للأمم المتحدة ، الذى يعقد عادة فى شهر سبتمبر ، يرفع خريطة أمام مستمعيه تخلو بالكامل من "فلسطين" ، وتضم "غزة" والضفة والقدس ـ طبعا ـ إلى كيان الاحتلال على نحو نهائى جازم .
لم تكن إسرائيل إذن ، ولا راعيتها أمريكا المندمجة معها استراتيجيا ، لم تكونا فى حاجة إلى ذريعة لشن حرب الإبادة ، وإن تظاهرتا بذلك ، وعلى نحو ما تردده حتى أصوات ناعقة باللغة العربية ، كثير منها مريب ويعمل بوضوح ومباشرة فى خدمة الدعاية الأمريكية "الإسرائيلية" نازية المضامين ، المفزوعة من بقاء الشعب الفلسطينى على أرضه وتكاثره فوقها ، وزيادة أعداد الفلسطينيين الراسخين فوق أرضهم المقدسة ، وتخطيها لأعداد اليهود المجلوبين لاستيطان فلسطين ، وكان ذلك هاجسا مرعبا لصناع المشروع الصهيونى ورعاته وأهله ، حذر منه علماء السكان "الإسرائيليون" مبكرا ، واعتبروه بمثابة "حروب غرف النوم" الأخطر فى مضاعفاتها من حروب النار والدمار ، وتضاعفت الهواجس "الإسرائيلية" فى الثلاثين سنة الأخيرة ، وكانت وراء الصعود المتصل المتضخم فى تيارات اليمين الصهيونى ، وتصاعد حضور حركات أكثر عنصرية وتطرفا على يمين "حزب الليكود" ، بينها ورثة حركة "كاخ" وزعيمها الحاخام "مئير كاهانا" المقتول على يد المصرى "سيد نصير" فى "نيويورك" أواخر 1990 ، ثم تناسلت "كاخ" فى أحزاب وحركات مستوطنين أكثر نفوذا ، بينها أحزاب اليمين القومى الدينى بقيادة "إتمار بن غفير" و"بتسلئيل سموتريتش" وغيرهم فى العقدين الماضيين من القرن الجارى ، وإلى أن وصلوا إلى سدة الحكم مع "نتنياهو" ، وكان جوهر الاتفاق بينهم صريحا ، منطوقه السعى إلى حل نهائى لحضور الفلسطينيين المتزايد ، إما بتدمير حياتهم ، أو بالطرد والتهجير ، أو بالإبادة الجسدية ما أمكن ، وعلى نحو ماجرى فى "غزة" خلال السنتين الأخيرتين ، وهو ما يعنى ببساطة صادمة، أن حرب الإبادة عقب هجوم السابع من أكتوبر 2023 كان لابد أن تحدث ، فلم تعد من إمكانية لحلول وسط ، ولا لتسويات موقوتة دمرتها "إسرائيل" عن عمد ، فقد كانت أقدار الصراع تمضى إلى مداها الدموى ، وهو ما يعنى أيضا ، أنه قد لا تصح محاكمة "حماس" وأخواتها على هجوم السابع من أكتوبر ، ولا على صحة أو خطأ القرار وحساباته ، فقد كنا ولا نزال بصدد أقدار لا يمكن تجنبها ، بقدر ما تجب مقاومة مضاعفاتها الأسوأ .
المعنى إذن ، أن هجوم السابع من أكتوبر كان عملا دفاعيا ، حتى وإن اتخذ صورة الهجوم ، الذى استبق إبادة كانت وشيكة فى مطلق الأحوال ، وفى مواجهة الأقدار اللعينة ، كانت جماعات المقاومة الفلسطينية حاضرة مستبسلة بما تستطيع ، فى ظل حصار خانق ممتد ضدها ، منع أن تصل إليها طلقة رصاص ولا شربة ماء عبر عامين ، وبديهى أنه لم تكن هناك من شبهة تكافؤ فى السلاح ، وكان بوسع العدو الأمريكى "الإسرائيلى" أن يجتاح "غزة" فى ساعات ، لكن جماعات المقاومة بأنفاقها وعقيدة قتالها وبورش تصنيع السلاح الذاتى ، استطاعت تقديم نماذج ملهمة من عمليات الفداء الأسطورى ، توازت مع صمود الشعب الفلسطينى لهول العذاب الأسطورى ، وبدا "سر غزة" ساطعا فى المقاومة وفى احتمال العذاب معا ، فأهل "غزة" فى أغلبهم ممن جربوا النكبات كلها ، وكانت "غزة" مهدا أولا لحركات المقاومة من "فتح" وأخواتها إلى "حماس" وأخواتها ، وكان مزيج المقاومة والعذاب الفريد ، هو الذى صنع أسطورة "غزة" عالميا ، فقد قتلت المقاومة وجرحت نحو عشرة آلاف من ضباط وجنود العدو ، ودمرت مئات من مركباته ودباباته ، فوق تزايد معدلات الهجرة العكسية ليهود كيان الاحتلال ، التى تجاوزت رقم النصف مليون بتقديرات المؤرخ "الإسرائيلى" الهارب إلى لندن "إيلان بابيه" ، إضافة لكلفة حرب الإبادة التى فاقت 100 مليار دولار، ثم كان جرح "غزة" وشلالات دمائها وأشلاء أطفالها ، هو الذى حطم صورة "إسرائيل" فى بيت العائلة الغربى ، وكاد ينسف الرواية "الإسرائيلية" من جذورها ، وفى عواصم الغرب التى كانت مهدا وأما للحركة الصهيونية ، وصارت أسطورة "غزة" تلهم وتحفز قلوب وضمائر ملايين المتظاهرين يوميا فى عواصم أوروبا الكبرى ، وحتى عند الأجيال الشابة فى أمريكا ذاتها ، وصرنا أمام انتفاضة عالمية كبرى غير مسبوقة فى كثافتها وامتدادها ، حملت اسم "غزة" و"حرية فلسطين" إلى قلوب وضمائر العالم ، مع نبذ "إسرائيل" وعزل أمريكا دوليا .
اقرأ أيضاً
رئيس اللجنة الاوليمبية : الرئيس السيسي قائد عظيم وأنقذ المنطقة من عواقب وخيمة باتفاق شرم الشيخ
مصر المستقبل: جهود مصر والرئيس السيسي تُحقق إنجازًا قياديًا وإنسانيًا في غزة
باسم الجمل: دخول المساعدات إلى غزة وعودة النازحين مشهد إنساني عظيم تحقق بفضل قيادة الرئيس السيسي وجهود مصر المتواصلة
تيسير مطر: دخول المساعدات إلى غزة وعودة النازحين إنجاز إنساني لم يكن ليتحقق سوى بحكمة وشجاعة الرئيس السيسي
«قادة العالم في أرض السلام».. هل يحضر أردوغان توقيع اتفاق غزة مع ترامب بشرم الشيخ؟
الأونروا: لدينا مساعدات تكفي غزة لمدة 3 أشهر
التنسيقية: اتفاق شرم الشيخ لوقف حرب غزة انتصار لإرادة السلام
الصين تأمل في تحقيق الوقف الشامل والدائم لإطلاق النار في غزة في أسرع وقت
السيسي يدعو ترامب لزيارة مصر والمشاركة في احتفالية اتفاق غزة
إسرائيل وحماس تستعدان لتنفيذ اتفاق غزة
دموع وفرح وقلق .. مشاعر مختلطة لدى سكان غزة بعد الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار
الأمم المتحدة: فرقنا جاهزة لتحريك شاحنات المساعدات في قطاع غزة
وجاءت "خطة ترامب" كمحاولة لعكس الاتجاه العالمى ، والتستر وراء شعار السلام بهدف تحقيق حرب الإبادة لأهدافها بوسائل السياسة ، فما عجزت عنه الحرب ، يسعى "ترامب" لتحقيقه من وراء لافتة إنهاء الحرب ، ولا تزال الخطة الخادعة الجديدة توالى مراوغاتها ، وبالهدف المعلوم ذاته ، أى إرغام الفلسطينيين على الخروج بدعوى الهجرة "الطوعية" ، ومصادرة نور "غزة" بفرض حكم أجنبى عليها ، وتبديل الطبيعة الوطنية التحررية لقضية "غزة" وفلسطين ، وتحويلها إلى مقاولات ومزايدات ومناقصات عقارية ، وسلب مزايا "غزة" وثرواتها الغازية والبترولية البحرية ، واحتجازها مؤقتا فى جيب أمريكا قبل أن تنقل إلى "إسرائيل" ، مع تكفير "غزة" بسيرتها الكفاحية ، ونزع سلاح المقاومة ونفى قادتها ، وقد تنجح محاولات التبديل والنزع إلى حين ، لكنها ستواجه فى النهاية نار الحقائق الكبرى ، ففصائل المقاومة ، حتى وإن نزعوا سلاحها ، قد تختفى عن الأنظار صوريا ، وتولد محلها فصائل مقاومة جديدة ومن نوع مختلف ، فلن يتوقف العدوان "الإسرائيلى" أبدا ، ولا الحرب ستنتهى إلى مشهد ختام مستقر ، وما دام الاحتلال مستمرا حتى لو جرى تمويهه ، فسوف تنهض "غزة" إلى قيامة جديدة ، وإلى أن تعود النجوم إلى مداراتها الأصلية ، فقد تكون "غزة" شاطئا جميلا مغريا بزرقة البحر وكنوزه ، لكن "سر غزة" كامن من وراء صورتها الخارجية ، وسيرة عذابها وثيقة الصلة بسر مقاومتها التى لا تهزم ، ولم تحسم الحرب أبدا ضد "غزة" وضد الفلسطينيين ، ولا تزال فى القصة فصول مقبلة ، فانتظروا "غزة" التى تنهض من رمادها .