فاتن فتحي تكتب : استخدام الذكاء الاصطناعي في إعداد وتدريب مساعدي التمريض لتحسين جودة الرعاية الصحية وتخفيف أعباء العمل

في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم في مجال الرعاية الصحية، يبرز الذكاء الاصطناعي كأحد أكثر الأدوات فعالية في مواجهة الأزمات وتطوير الكفاءات. إذ لم يعد الحديث عن الذكاء الاصطناعي رفاهية علمية بل ضرورة ملحة خاصة في ظل النقص الحاد في الكوادر التمريضية الذي بات يمثل تحديًا عالميًا متزايدًا بعد جائحة كوفيد-19، التي كشفت هشاشة الأنظمة الصحية، وألقت الضوء على الحاجة إلى تعزيز فرق الرعاية عبر فئات مساندة مثل مساعدي التمريض.
تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى وجود عجز عالمي يتجاوز 5.9 مليون ممرض وممرضة، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 7.6 مليون بحلول عام 2030 إذا لم يتم اتخاذ خطوات جادة لمعالجة هذا النقص. وفي حين أن الدول منخفضة ومتوسطة الدخل تتحمل أكثر من 70% من عبء الأمراض عالميًا، فإنها لا تمتلك سوى أقل من نصف القوى التمريضية. في مصر مثلًا، يبلغ متوسط عدد الممرضين لكل ألف نسمة أقل من 2 ممرض، مقارنةً بنحو 10 في دول أوروبية متقدمة، مما يضع ضغطًا هائلًا على النظام الصحي الوطني ويعزز الحاجة إلى تعزيز دور مساعدي التمريض.
هذا النقص الحاد يرتبط أيضًا بمعدلات الإرهاق المهني المرتفعة في أوساط الطواقم التمريضية، حيث أظهرت دراسة للجمعية الأمريكية للممرضين أن أكثر من 90% من الممرضين يعانون من إرهاق دائم، ونحو ثلثيهم يخططون لمغادرة المهنة خلال خمس سنوات. وقد أدى هذا إلى تراجع جودة الخدمات، وارتفاع نسبة الأخطاء الطبية، وتدهور معدلات رضا المرضى.
في هذا السياق، يُعد مساعد التمريض أحد الأعمدة الأساسية التي يمكن البناء عليها لضمان استمرارية الخدمة وتحسين جودتها. وفقًا لمنظمة العمل الدولية، يشكل مساعدو التمريض عنصرًا مساندًا هامًا داخل الفريق الطبي، يقومون بمهام متعددة تشمل العناية الشخصية للمرضى، ومراقبة العلامات الحيوية، وتوثيق البيانات، والمرافقة داخل المنشآت الصحية، إلى جانب الدعم النفسي والإنساني، وكل ذلك تحت إشراف مباشر من الممرضين أو الأطباء.
وقد أثبتت تجارب دولية عديدة فعالية دمج مساعدي التمريض في النظام الصحي. دراسة بريطانية نُشرت في دورية BMJ Open أظهرت أن الاعتماد على هؤلاء المساعدين خفّض من أعباء العمل بنسبة قاربت 30%، كما ساهم في رفع معدلات رضا الفرق الطبية بشكل ملحوظ. وفي مستشفى بوسطن العام، أدت هذه السياسة إلى تحسين جودة الأداء السريري وتقليص الوقت المستغرق في تنفيذ المهام الروتينية بنسبة لافتة.
الذكاء الاصطناعي هنا ليس مجرد تقنية بل شريك تدريب متكامل، إذ باتت أدوات المحاكاة الذكية والواقع الافتراضي والواقع المعزز تمكّن المتدرب من خوض تجارب واقعية آمنة تحاكي الحالات المرضية المعقدة. تقنيات مثل Laerdal وCAE وMicrosoft HoloLens أصبحت توفر بيئات ثلاثية الأبعاد تسمح بتعلّم إجراءات دقيقة مثل الإنعاش القلبي والرعاية الجراحية والعناية بمرضى السكتة الدماغية دون خطر حقيقي. فضلًا عن أدوات تحليل الأداء الذكي التي تقيّم المتدرب لحظيًا وتقدّم له ملاحظات رقمية فورية، وتوصي بخطط تعليمية مصممة خصيصًا له.
تطبيقات الذكاء الاصطناعي لا تتوقف عند التدريب، بل تمتد لتشمل التعليم النظري من خلال منصات مثل Coursera Health AI، وتقييم الأداء عبر الاختبارات التكيفية، وإثراء بيئة التعلم داخل الصف عبر السبورات الذكية ونظم التصويت الفورية. كما دخلت روبوتات الدردشة الذكية مثل Jasper HealthBot بقوة في هذا المجال، لتجيب عن استفسارات المتدربين على مدار الساعة، مما رفع مستويات الرضا والتفاعل بشكل غير مسبوق.
من المهم أيضًا أن تُبنى مناهج تدريب مساعدي التمريض على أسس حديثة، تدمج بين المعرفة الطبية والمهارات التكنولوجية. ومن هنا يأتي المقترح التدريبي الذي يمتد على مدار أربعة أسابيع، ويشمل موضوعات مثل أساسيات التمريض، مكافحة العدوى، الإسعافات الأولية، التوثيق الذكي، مهارات التواصل، إلى جانب تدريب عملي مباشر ومحاكاة افتراضية. هذا النموذج يضمن تخريج مساعد تمريض متكامل ومواكب لتحديات العصر.
تتعدد استخدامات الذكاء الاصطناعي في قطاع التمريض، بداية من المراقبة الذكية لحالة المرضى، وصولًا إلى اتخاذ القرارات السريرية وتحليل بيانات السجلات الصحية. كما تستخدمه بعض الأنظمة للتنبؤ المبكر بالمضاعفات وتحديد المخاطر، وتنظيم جدول المهام، وتقديم خدمات الرعاية عن بعد، وحتى اكتشاف الحالات النفسية والسلوكية مبكرًا. كما دخل الذكاء الاصطناعي في إدارة الأدوية والتوافقات الدوائية، وهو ما يساعد في تقليل الأخطاء وتحقيق أقصى درجات الأمان للمرضى.
في ضوء كل ذلك، تبدو التوصيات واضحة، وتتمثل في ضرورة دمج الذكاء الاصطناعي في كل مراحل تدريب مساعدي التمريض، وتطوير منصات تعليمية وطنية خاصة في المناطق الريفية، وإدراج وحدة "الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية" ضمن المناهج الدراسية، إلى جانب تشجيع الشراكات مع شركات التكنولوجيا لتطوير أدوات تعليم صحي ذكية، ودعم السياسات الحكومية لتوفير التمويل اللازم لهذا النوع من التدريب المتخصص.
لقد آن الأوان أن تتحرك الدول بجدية في هذا الاتجاه، فمستقبل الرعاية الصحية لن يُبنى فقط على المباني أو الأجهزة، بل على العقول المدربة والأيدي الماهرة، وعلى الابتكار في التعليم والتدريب. وإذا كان التمريض هو العمود الفقري لأي نظام صحي، فإن مساعد التمريض الذكي والمجهّز بالتقنيات الحديثة سيكون القلب النابض لهذا الجسد الطبي المتطور. ومصر، بما تملكه من طاقات بشرية وإمكانات أكاديمية، يمكنها أن تكون في طليعة الدول التي تتبنى هذا التحول الذكي في بناء كوادرها الصحية المساعدة.