الوطنية المذبذبة
د . على الحسينى
عاش كغيره خارج مصر، وأكمل دراسته الجامعية، ثم أتيحت له فرصة للعمل بعد إكمال الدراسة إلا أنه لم يؤمن بعادات وتقاليد غير بلده، وإذا وجد شيئاً نافعاً لوطنه جناه ونقله، وأما فيما يتعلق بالفكر وما يتصل بالعقل أو بالقلب فهو مصري الحب والهوى، فلا يحب ولا يعشق إلا هذا الوطن.
تنشأ وتتربي أجيالٌ من أبنائنا خارج مصر لظروف عمل ذويهم، والناس عادة ما تصنف في الغربة إلى فئتين، فئة تحافظ على عادات وتقاليد بلدها، فتعمل على تغذية عقول أولادها، وإلمامهم بتاريخ وطنهم، وفئة تذوب مع عادات وتقاليد البلدان التي يسكنونها، مع معرفة ليست مكتملة عن تاريخ وطنهم.
إلا أن هناك فئة ثالثة تعيش في معزل روحي ومعرفي عن بلدها، وهم مَن ولدوا خارج مصر، فلم يعرفوا عنها إلا اسمها، ونظراً لطبيعة الانشغال بأمور المعيشة من أهليهم فتقل بل تنعدم معرفتهم بعادات بلدهم، ولا يعلمون أن لهم تاريخاً ثقافياً مشرفاً، وطابعاً خاصاً، وتقاليد أصيلة، ومواهب متعددة.
هؤلاء يتأدبون بأدب هذه البلاد التي ولدوا وعاشوا فيها، ويتسمون بسمتها، ويطمسون على أشخاصهم بالانخراط في مثل هذه البيئات، ثم يعودون كباراً وفي عقولهم تاريخ غير تاريخ مصر، وعلى ألسنتهم كلام غير كلام أهلها، ويلاحظ أن كثيراً من أفكار وثقافة هذه البلدان لا يتوافق في جوانب كثيرة مع بعض عناصر الهوية المصرية والثقافة الدينية، فيرجع الكثير منهم بأفكار غير أفكار المصريين.
هذه هي الوطنية المذبذبة، والشعور بعدم الانتماء، والإحساس بالغربة؛ لأن المجتمعات الخارجية لا تقبلهم بطبيعة حالها، كما أنهم رضوا بإرادتهم أن يجعلوا أنفسهم غرباء بثقافتهم عن بلدهم، بعيدين بعاداتهم عنها، فعاشوا عيشة المقلد، وابتعدوا ابتعاد الحائر، فلم يستطيعوا أن ينخرطوا في هذه المجتمعات لإحساسهم بالغربة، ولم يريدوا أن يعودوا لعادات بلدهم لضعف الإرادة، فخسروا مرتين.
ولذا يتطلب الأمر من الآباء المقيمين خارج مصر تربية أولادهم على تقاليد بلدهم وعدم نسيانها، وإذاعة حب الوطن في قلوبهم، والمحافظة على هويتهم المصرية، وإظهار تاريخهم الحافل في المحافل، وأما السعي لتشبعهم بعادات بلد غير بلدهم فهي حسرة، وأشد من هذه الحسرة أن يكونوا أجانب عن مصر في عقليتهم وعواطفهم وثقافتهم.