أخلاقيات اللذة
د . حسين على
كانت «النملة» تسعى سعيها اليومي بحثًا عن الرزق، تصادف أن سقطت على مقربة منها قطرة عسل، اتجهت النملة إلى العسل فرحة، واقتربت من حافة القطرة ومدّت أناملها الرقيقة والتقطت قليلاً من العسل وتذوقته، فراق لها طعم العسل، وحين حاولت الذهاب إلى حال سبيلها، جذبها طعم العسل، فعادت وأخذت رشفة أخرى، وبعدها استجمعت إرادتها، وقررت الانصراف بعيدًا عن العسل، ولكن شيئًا ما همس في أذنها «إن العسل لذيذ، وحلو المذاق، وقد لا تتاح لكِ فرصة الحصول عليه مرة أخرى .. لا تكوني بلهاء وتنصرفي تاركة الاستمتاع بمذاقه الحلو».
عادت أدراجها واقتربت من حافة قطرة العسل. عاودت الرشف واستغرقتها اللذة، ونسيت كل شئ، وظلت تغوص إلى عمق قطرة العسل، وحين ارتوت، أرادت أن تعود إلى ما كانت عليه من سعي في الأرض، فاكتشفت أن لُزُوجةَ العسل كبلت قوائمها، والتصق كامل جسدها بالأرض، فأدركت أن نهايتها قد حانت؛ انتابها فزع ورعب، وحاولت بكل ما لديها من طاقة الفكاك من العسل والتملص من قبضته، ولكن باءت كل محاولاتها بالفشل. وظلت على هذه الحال من الجمود إلى أن فارقت الحياة.
اقرأ أيضاً
- قد تكون مظلوما.. لكن هل حقا تشعر بذلك؟
- نسق المعتقدات والتنمية الثقافية
- استاذ فلسفة اسلامية: روح مصر كانت تختنق لمدة 50 سنة أثناء ظهور السلفيين
- صناعة الأصنام
- اتساع المعرفة سعادة أم شقاء؟
- الإرادة ومصير الإنسان
- أوهام بشرية
- الكراكيب
- طلاب الثانوية العامة بالبحر الأحمر بعد امتحان الفلسفة : اخدنا العديه وفرحانين
- اكبر استاذ للفلسفة بالولايات المتحدة يشيد بدور هدى درويش في نشر التسامح
- اليوم .. بدء الامتحان الإلكتروني في الفلسفة والفيزياء لطلاب أولى ثانوي
- رئيس حزب ”المصريين”: السيسي يؤسس لفلسفة جديدة للصناعة الوطنية
تستغرقنا اللذات وتطغى، وتستحوذ علينا فتنسينا أنفسنا. وقد يبدأ الاعتياد على ممارسة أحد الأفعال اللذيذة مصادفةً أو عن قصد؛ ثم نكرره مرة ومرات حتى يصبح هذا الفعل جزءًا من حياتنا نأنس به وننجذب إليه، ولا نقدر على الاستغناء عنه. إن الإنسان – وكذلك الحيوان- يحرص على تكرار الأفعال التي أشبعت رغباته، وحققت له نجاحات. وفي كتابه «ما فوق مبدأ اللذة» يضرب فرويد مثالاً عن تشبث الأطفال بالتكرار، واستمتاعهم به؛ فيقول: «إذا كنت قد رويتَ لطفلٍ حكايةً لطيفةً، فإنه سيصرّ على سماعها منك مرات عدَّة، دونما ملل، مفضّلًا إياها على أي حكاية جديدة. ويشترط عليك أن تعيدها بدقة. وإذا حصل أن اقترفت (جريمة التغيير) فيها، فسيقوم الصغير بمقاومتك مُبديًا غضبه، وسيطالبك بتصحيح ما اقترفته من خطأ، لأنَّ المتعة لديه، في هذا المثال، تكمن فقط في شرط التكرار، لا في الحكاية!».
إذا اقتصرت اللذة على المتع الجسدية والحسية، وأهملت الجوانب العقلية والروحية؛ فإنها في هذه الحالة تجرد الإنسان من أعز ما يملك؛ وبالتالي لن يكون ثمّة فرق – في هذه الحالة - بين الإنسان والحيوان. إن من يلهث وراء اللذات الحسية سوف تستغرقه اللحظة الحاضرة المؤقتة، ويتناسى الماضي ويغفل عن المستقبل. إن السعي لإشباع رغبات الجسد ومتعه؛ يُدخِل الإنسان في سلسلة من الخسائر، ولا أدل على ذلك من النظر إلى حياة أولئك الذين أدمنوا التدخين – رغم ضرره البالغ- أو شاربي الخمور بإسراف شديد، أو الذين لا يكفون عن إقامة علاقات جنسية مؤقتة وعابرة دون التفكير في العواقب؛ كي ندرك خطورة الاستسلام للمتع الحسية.
ولقد ظهرت طوال تاريخ الفكر البشري تيارات ومذاهب فلسفية رأت أن «اللذة» أو «السعادة» أو «المنفعة»- وكلها بمعنى واحد- هى معيار الفعل الأخلاقي، فالناس يبحثون عن سعادتهم، وليس أدل على ذلك من أن تنظر إليهم في حياتهم اليومية المعتادة، فتجدهم بالفعل يسعون إلى تحقيق ذلك، ومن ثمَّ تكون السعادة إحدى غايات السلوك البشري ومعيار الأخلاق. إن «الخير»- في نظر تلك المذاهب الفلسفية- يتمثل في اللذة أو الفعل الذي يؤدي إليها، و«الشر» هو الألم أو ما يؤدي إليه؛ لأن كل إنسان بفطرته ينزع نحو تحقيق اللذة، ويجتهد لتجنب كل ألم. ولقد تعرضت الفلسفة الأبيقورية ومذهب المنفعة العامة وكذلك فلسفة جون ستيوارت مل إلى انتقادات حادة جرَّاء رؤية هؤلاء الفلاسفة إلى اللذة بوصفها مقياسًا مرجعيًا للأخلاق. ورأى خصوم هذه المذاهب الفلسفية ونقَّادها أن نظرية تلك المذاهب «لا تلائم سوى الخنازير وحدهم».
حقيقة الأمر إن أنصار مذهب اللذة قد اختلفوا حول طبيعة اللذة: هل هى حسية، أم عقلية، أم حسية وعقلية معًا؟ وهل اللذة سيكولوجية أم أخلاقية؟ وهل الخير يكمن في اللذة الفردية التي يحكمها مبدأ الأنانية أم اللذة الجماعية التي تقوم على الإيثار وتحقيق الخير للجميع؟ إننا لو بحثنا في خبرتنا اليومية لاستطعنا أن نتحقق من أن هناك لذات نبيلة، ولذات حقيرة. وعلينا كبشر أن نوازن بين اللذات، بمعنى أن نستخدم عقولنا في تفضيل لذة على أخرى، ولا نتهافت على لذة قريبة وسريعة يعقبها على المدى البعيد شقاء وتعاسة. وبطبيعة الحال لا يمكننا أن نساوي بين اللذات الحسية التي يتساوى فيها الإنسان مع الحيوان واللذات العقلية التي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات الأخرى، بل ربما كان من الأفضل للمرء أن يكون إنسانًا محرومًا ومتألمًا بسبب هذا الحرمان؛ من أن يكون خنزيرًا متلذذًا.
إن أساس السلوك الإنساني ينبني على الميل إلى اللذة والنفور من الألم، لكن بمرور سنوات العمر وبفضل التربية؛ يعتاد المرء على كبح جِمَاح بعض اللذات التي تتعارض مع المبادئ الإنسانية والتعاليم الدينية والعادات والتقاليد السائدة، كما يعتاد أيضًا على تحمل أنواع معينة من الألم من أجل خير أعظم.