السبت 23 أغسطس 2025 09:27 صـ 28 صفر 1447هـ

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

آراء وكتاب

قنابل ”بوتين” الناسفة لتحالف الغرب

بدا الرئيس الروسى "فلاديمير بوتين" فى الفترة الأخيرة ، وكأنه يضع قنابل ناسفة تحت سريرتحالف الغرب الأمريكى الأوروبى ، فقد كان انتصار "بوتين" كاسحا فى قمة "ألاسكا" حتى فى لغة الجسد ، واستثمر ولع الرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" بأداء أدوار "تليفزيون الواقع" ، بينما كان الواقع نفسه من نصيب "بوتين" ، كان كعب الرئيس الروسى أعلى من كعب "ترامب" ، بل ربما أعلى من رأسه الولهان المعجب بذكاء الرئيس الروسى ، وبنقلاته المفاجئة على رقعة الشطرنج العالمى ، فقد أعاد رسم خريطة السلام المستهدف بعد حرب أوكرانيا بسنواتها الثلاث ونصف السنة إلى اليوم ، وأزاح "بوتين" مطلب وقف إطلاق النار أولا عن موائد التفاوض ، ووضع قاعدة الاتفاق الشامل أولا قبل الحديث عن وقف النار ، وابتلع "ترامب" هجمة وحيلة "بوتين" الجريئة ، وراح يعرضها كأستاذ فى لقاء مهين مع سبعة من القادة الأوروبيين الكبار ، الذين ابتلعوها بدورهم مرغمين ، وسلم بها معهم الرئيس الأوكرانى "فلوديمير زيلينسكى" ، الذى نجا هذه المرة من تكرار إهانة شهيرة ، لحقت به فى لقاء المكتب البيضاوى أواخر فبراير الماضى ، وخلع بزته العسكرية ليرتدى بدلة رسمية سوداء هذه المرة ، وعامله "ترامب" بلطف استدراجى فى اللقاء الثنائى ، لكن "ترامب" نقل ولعه بالإهانات هذه المرة إلى القادة الأوروبيين الملتزمين بكامل الأناقة الرسمية المصطفين أمامه ومن حوله على مقاعد منخفضة ، وتركهم "ترامب" فى حالة انتظار مترقبة لنهاية مكالمة مطولة ، أجراها "ترامب" مع "بوتين" ، ولم يعد لضيوفه بشئ محدد يشفى غليل الانتظار ، اللهم إلا سعى "ترامب" عند "بوتين" لترتيب لقاء مع "زيلينسكى" ، يعقبه لقاء ثلاثى يجمع "بوتين" و"ترامب" و"زيلينسكى" .


وبالجملة ، بدا "بوتين" فى وضع المرشد الهادى إلى سبيل التفاوض الرشيد ، وبكامل شروط روسيا المعلنة فى الميدان الأوكرانى ، فالقاعدة الأصلية فى التفاوض أى تفاوض ، هى أنه لا أحد يكسب على موائد الحوار بأبعد مما يصل إليه مدى مدافعه فى الحرب ، وفى هذه اللحظة من أعنف وأطول حرب استنزاف داخل أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية ، تبدو روسيا قاب قوسين وأدنى من الحسم العسكرى الكامل ، وتحقق تقدما عسكريا ظاهرا مطردا فى ميدان الصدام مع 54 دولة بقيادة واشنطن ، وتضيف بلدة وبلدتين وثلاثا يوميا فى هجومها طويل النفس ، الذى تسميه موسكو بالعملية العسكرية الخاصة ، ومن دون اضطرار لإعلان حرب وحالة طوارئ عامة تجاوز التعبئة المحدودة المعلنة بنسبة 1% لا غير ، بينما يتعافى الاقتصاد الروسى على نحو مذهل ، رغم فرض الغرب الأمريكى الأوروبى والعالمى لما يزيد على 24 ألف عقوبة اقتصادية ، لم تؤثر جوهريا فى الاستعداد العسكرى الروسى ، ولا فى نشاط المجمع الصناعى العسكرى الروسى ، الذى يزيد إنتاجه السنوى بأربعة أمثال ما ينتجه الغرب كله ، وهو ما أدى إلى مفارقة ظاهرة فى حساب النتائج ، كانت واشنطن عند طلقة بداية الحرب ، تسعى علنا لجعل أوكرانيا "أفغانستان ثانية" للروس ، فقد كانت حرب موسكو فى أفغانستان من عناصر إنهاك وانحلال الاتحاد السوفيتى السابق ، وأراد الغرب تكرار القصة ذاتها مع الاتحاد الروسى فى الميدان الأوكرانى ، وكانت المفاجأة التى دوخت وأنهكت الرهانات الغربية ، أن أوكرانيا وحربها تحولت إلى مقبرة و"أفغانستان ثانية" فعلا ، ولكن للأمريكيين وحلف "الناتو" هذه المرة ، فقد هربت واشنطن على نحو ذليل من أفغانستان بعد حرب العشرين سنة ، وها هو "ترامب" يكرر سلوك الهروب ذاته من حرب أوكرانيا ، وعلى طريقة قوله أن "أوكرانيا ليست حربى بل حرب الغبى جو بايدن" (!) .


وفى طريق الهروب المهزوم ، راح "ترامب" يبحث لنفسه عن طريقة أقل إذلالا ، وذهب يتخبط فى أوهام أعقب بعضها بعضا ، على طريقة زعمه فى حملته الانتخابية الأخيرة ، أنه قادر على إيقاف حرب أوكرانيا فى 24 ساعة ، لكنه وقع سريعا فى مصيدة "بوتين" ، الذى أجرى معه ست مكالمات هاتفية مطولة ، أحس معها بصداع مزمن فى رأسه الخالى إلا من الشعر البرتقالى ، أشعره أن "بوتين" يتلاعب به ، وراح يعرب مرارا عن ضيقه ، وإلى أن هدد بعد المكالمة السادسة الماراثونية ، وأعطى مهلة أخيرة للرئيس الروسى ، خفضها فيما بعد من خمسين يوما إلى عشرة أيام ، وأرسل مبعوثه الخاص المقاول "ستيف ويتكوف" للقاء بوتين قبل انقضاء المهلة بيومين ، وبدت رحلة "ويتكوف" ، وكأنها حبل إنقاذ للرئيس الأمريكى من ورطة تعهداته ، وتهديده بفرض عقوبات ورسوم جمركية إضافية عالية على موسكو وشركائها فى الصين والهند بالذات ، وكان قد مهد للتراجع قبلها ، وأعلن أن العقوبات لا تؤثر فى اقتصاد الروس ، وكان المخرج الذى سهله "بوتين" ، هو عقد لقاء قمة "ألاسكا" بين الرئيسين الأمريكى والروسى ، وبدا عقد اللقاء فى ذاته كأنه مقلب ساخر من أوهام عزل روسيا دوليا ، ثم بدت مجريات اللقاء ، وكأنها عناوين انتصار سياسى وتفاوضى جهير لصالح "بوتين" .


نجح "بوتين" أولا فى فرض جدول أعمال للتفاوض مع واشنطن ، أزال عن المائدة مطالب "ترامب" بوقف النار ، وركز بدلا من ذلك على حصد المكاسب الروسية ، والتسليم بأولوية خطوط القتال على الأرض ، وباع "بوتين" القصة للرئيس الأمريكى على أنها عملية تبادل أراضى ، بينما كل الأراضى موضوع التبادل تقع داخل حدود أوكرانيا ، التى سيطرت روسيا على نحو ربع إجمالى أراضيها شرقا وجنوبا ، من شبه جزيرة القرم وميناء "سيفاستوبول" ، إلى مقاطعتى الدونباس "لوجانسك ودونيتسك" ، إضافة لأغلب مساحات مقاطعتى "زاباروجيا" و"خيرسون" شرق "نهر الدنيبرو" ، ثم أجرت موسكو اختراقات أمنية عميقة فى مقاطعات "سومى" و"خاركيف" و"دنيبرو بتروفسك" ، وبدا أن موسكو تعرض مساحات محدودة جدا من الاختراقات الإضافية ، وبشرط الخروج الفورى للقوات الأوكرانية طوعا مما تبقى فى يدها غرب مقاطعة "دونيتسك" ، فلا تزال القوات الأوكرانية تحتفظ بمدن "كراماتورسك" و"سلافيانسك" وغيرها ، ولا يزال أكثر من ربع مساحة "دونيتسك" فى يد الأوكران ، والقوات الروسية تتقدم حثيثا للسيطرة على الربع المتبقى ، وهو ما يجرب "بوتين" أن يقتطعه بالتفاوض ، ربما لأهمية "دونيتسك" فى قلب منطقة "الدونباس" ، وهى المنطقة الأغنى بمنشآتها الصناعية المتطورة ومناجم معادنها الثمينة النادرة فى أوكرانيا كلها ، وهو ما يسيل له لعاب "ترامب" ، الذى يسعى لجنى فوائد اقتصادية من التعاون الاستثمارى مع روسيا ، وإن كان "بوتين" الأذكى يسعى لجنى مزايا أكبر ، تنهى سلاسل العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا ، واسترداد 300 مليار دولار أصولا روسية جمدها الغرب الأمريكى الأوروبى ، وهو ما يبدو أن "ترامب" يميل للتجاوب معه ، وبأمل يبدو كعشم إبليس فى الجنة ، هو أن يحاول فك صلات "العروة الوثقى" بين موسكو وبكين ، وبين "بوتين" ورفيقه الرئيس الصينى "شى جين بينج" ، وهو ما لا يقبل به "بوتين" طبعا ، فالرئيس الروسى يرى حرب أوكرانيا من وجهة نظر تاريخية أوسع ، ترى فى نتائج الحرب قنطرة عبور من عالم أحادى القطبية الأمريكية إلى عالم متعدد الأقطاب ، تكون روسيا فيه ـ إلى جوار واشنطن وبكين ـ طرفا ثالثا على خريطة القوى الأعظم عالميا .
وهكذا نقل "بوتين" حزم التناقضات إلى حجر الغرب كله ، وجعل "ترامب" رسوله الخاص إلى المهمة الكبرى ، فعلى "ترامب" أن يضغط ويقنع "زيلينسكى" بالتنازل عن الأراضى التى تريدها روسيا ، وضمتها رسميا ودستوريا ، ثم أن يضغط "ترامب" ويقنع الحلفاء الأوروبيين بالتنازل نفسه ، و"بوتين" يدرك جيدا سيكولوجيا "ترامب" ، الذى يكره الأوروبيين ، ويفرح بإهانتهم وابتزازهم ، على نحو ما جرى فى إرغامهم على مضاعفة نفقاتهم فى موازنة حلف "الناتو" ، وفى فرض قواعد علاقات تجارية مجحفة ، تحرم الأوروبيين من المزايا الجمركية السابقة ، وتجرهم لاستيراد غاز وبترول وسيارات ومنتجات غذائية أمريكية بكميات أكبر ، وعليه ـ أى على ترامب ـ أن يفرض على الأوروبيين شروط الرئيس الروسى لإنهاء حرب أوكرانيا ، وبإغواء "ترامب" بنيل جائزة "نوبل" للسلام ، ومفتاح الجائزة فى يد "بوتين" .


تبقى قصة الضمانات الأمنية لأوكرانيا ، التى لم يمانع فيها "بوتين" من حيث المبدأ ، وإن كان يرفض وجود أى قوات أوروبية على أراضى ما يتبقى من أوكرانيا ، بينما لا يبدو "ترامب" متحمسا للمشاركة فيها ، إلا فى حدود ضيقة ، لا تتصادم مع تعهده بعدم ضم أوكرانيا أبدا إلى حلف "الناتو" ، وقد لا تعبأ روسيا بأحاديث الضمانات كثيرا ، وقد سبق لروسيا ذاتها أن قدمت مع واشنطن ولندن ضمانات لأوكرانيا ، ووقعت على "مذكرة بودابست" أواخر عام 1994 ، ولم يحل ذلك دون التحرك العسكرى الروسى عام 2014 ، ولا دون العودة إلى الحرب الجارية اليوم ، وحتى إشعار آخر ، قد لا يجئ قريبا .


[email protected]

ترامب زيلينسكى بوتين روسيا أوكرانيا