في قلب كل حضارة عظيمة، تكمن رغبة دفينة في الخلود، وفي مصر القديمة، تجسدت هذه الرغبة بأبهى صورها في فن التحنيط. لم يكن التحنيط مجرد إجراء روتيني بعد الموت، بل كان طقسًا دينيًا معقدًا يهدف إلى الحفاظ على الجسد ليتمكن الـ "كا" والـ "با" (الروح والنفس) من العودة إليه في العالم الآخر. اليوم، تتيح لنا متاحف المومياوات حول العالم، وخاصة في مصر، نافذة فريدة على هذا العالم الغامض والمثير، حاملةً قصصًا لا تحصى عن الحياة والموت والبعث.
رحلة إلى عالم التحنيط
عندما تتجول في أروقة متحف المومياوات، سواء كان ذلك في المتحف المصري الكبير (GEM) أو في متاحف متخصصة مثل متحف التحنيط في الأقصر، فإنك لا تشاهد مجرد بقايا بشرية؛ بل تشهد على فن وعلم وصل إلى درجة عالية من الإتقان. تبدأ العملية، التي تستمر حوالي 70 يومًا، بإزالة الأعضاء الداخلية باستثناء القلب، ثم تجفيف الجسد باستخدام ملح النطرون، يليه تغليف الجسد بالكتان والراتنجات العطرية. كل خطوة كانت تتم بعناية فائقة، مصحوبة بالصلوات والتعاويذ لضمان سلامة الرحلة إلى الآخرة.
ليس مجرد مومياوات بشرية
ما يميز متاحف المومياوات أنها لا تقتصر على عرض المومياوات البشرية فحسب. فالمصريون القدماء كانوا يحنطون أيضًا الحيوانات، التي كانت تُعد مقدسة أو تُقدم كقرابين للآلهة. ستجد مومياوات لقطط، وتماسيح، وطيور، وحتى أسماك، مما يعكس العلاقة العميقة بين الإنسان المصري القديم والطبيعة والآلهة التي تجسدت في هذه الكائنات. هذه المومياوات الحيوانية تقدم لمحة فريدة عن المعتقدات الدينية والطقوس اليومية للمصريين.
كنوز بجانب المومياء
لا تقتصر كنوز متاحف المومياوات على الجثامين المحنطة نفسها. فغالبًا ما تُعرض بجانبها التوابيت المذهلة، المصنوعة من الخشب أو الحجر، والمزينة بالنقوش الهيروغليفية والرسومات الملونة التي تصور مشاهد من كتاب الموتى والآلهة الحامية.
كما تُعرض الأواني الكانوبية التي كانت تُستخدم لحفظ الأعضاء الداخلية، والتمائم، والمجوهرات التي كانت توضع مع المتوفى لحمايته في رحلته الأبدية. كل قطعة تروي جزءًا من قصة حياة، ومعتقد، وأمل في الخلود.
نافذة على المعتقدات الدينية
زيارة متحف المومياوات هي في جوهرها رحلة إلى عمق الروحانية المصرية القديمة. إنها فرصة لفهم كيف تعامل المصريون مع مفهوم الموت والبعث، وإيمانهم القوي بالحياة الآخرة. تُظهر لنا المومياوات والتوابيت والأدوات الجنائزية أن الموت لم يكن نهاية، بل كان مجرد انتقال إلى مستوى آخر من الوجود، يتطلب استعدادًا دقيقًا وحماية إلهية.
في الختام، يظل متحف المومياوات ليس مجرد مستودع للبقايا الأثرية، بل هو كنز ثقافي حي يروي قصة حضارة آمنت بأن الموت ليس إلا بداية رحلة جديدة، وأن الخلود يمكن أن يتحقق بالحب، والإيمان، والتحنيط. إنه مكان يلهم التأمل في طبيعة الحياة والموت، ويذكرنا بعظمة إنجازات أجدادنا القدماء.