لا خطوة للأمام ولا انسحاب كامل
بقلم : د . أمل منصور
ليست كل العلاقات تُبنى على الحب، وبعضها لا يُنهيه الكره، بل يُعلقه التردد.
في الآونة الأخيرة تسارعت الإشارات وتباطأت الخطوات، ظهرت علاقات جديدة لا تشبه القصص القديمة ولا تنتمي إلى معاني الحب الكلاسيكي، بل تعيش في منطقة رمادية بين الوصل والفصل .
نسير معًا… لكن لا نمسك الأيدي.
نتحدث كل يوم… دون أن نجرؤ على تسمية ما بيننا.
نشتاق… لكننا لا نعترف.
نغار… لكننا لا نطلب وضوحًا.
نُلمح بالحب، وننسحب عند أول اقتراب.
كأن القلوب أضحت تخشى الاقتراب أكثر مما تخشى الرحيل.
تتكرر تلك العلاقات المعلّقة بين شاب وفتاة يظنان أنهما يعيشان شيئًا مختلفًا، لكن الحقيقة أنهما يعيشان التردد ذاته، وإن بصيغ مختلفة. هو يقول إنه “مرتبك”، “غير جاهز”، “لا يريد أن يخسرها”، لكنها لا تفهم لماذا يكون معها دون أن يكون لها.
وهي تقول “أحتاج وقتًا”، . “أرتاح له لكن لا أطمئن”،
علاقة لا تمضي للأمام… لكنها أيضًا لا تموت.
كأنها عالقة بين دفتي الاحتمال: إن اقتربا أكثر، خافا من الالتزام؛ وإن ابتعدا، خافا من الفقد.
هذه الحالة المعلّقة ليست دائمًا قسوةً متعمدة من أحد الطرفين، بل هي في كثير من الأحيان نتاج جيل أصبح يحلل كل مشاعره بصوت عالٍ… ويكتمها في قراراته.
جيل يملك الشجاعة لبدء أي شيء، لكنه يخاف من إتمامه.
جيل يعرف ماذا يريد من الآخر، لكنه لا يعرف ماذا يعطي.
الارتباط المعلّق يستهلك المشاعر دون أن يشبعها، ، ويصنع من العلاقة ساحة للانتظار المستمر: انتظار تصريح، أو خطوة، أو لحظة وضوح لا تأتي
في العلاقات المعلّقة، لا أحد يملك الحقيقة كاملة، لأن كل شيء فيها قائم على التخمين. كل طرف يفسر الصمت بطريقته، ويملأ الفراغ بما يشتهي أن يسمعه. نخترع الأعذار، نُجمّل التردد، ونُقنع أنفسنا أن من يتراجع لا يفعل ذلك لأنه لا يريدنا، بل لأنه "مشوش"، "مرهق"، "لا يعرف نفسه بعد". وهكذا، بدل أن نحمي قلوبنا، نبرر خذلانها… ونظل نمنح فرصًا لم تُطلب.
المؤلم في هذا النوع من الارتباط أنه يجعل الطرفين يدمنان التأجيل.
تأجيل الحديث الحقيقي.
تأجيل الوضوح.
تأجيل القرار.
وفي التأجيل، يضيع الإحساس، ويبهت المعنى، ويتحول الشعور الصادق إلى عادة، ثم عبء، ثم صمت طويل لا يقطعه سوى رسالة متأخرة لا تقول شيئًا.
صار البعض يتقن الغياب أكثر من الحضور، ويتفنن في إشعال العاطفة دون أن يتحمل تبعاتها.
فنكبر على خيبات لم تحدث، ونحزن على نهايات لم تبدأ، ونُرهق أنفسنا في التفكير فيمن لم يقرر يومًا إن كان يريد البقاء أو الرحيل.
القلوب لا تُجرح فقط بالكلمات القاسية أو الأفعال المؤذية… أحيانًا يكفي أن يُترك القلب معلقًا، لا يسمع "نعم"، ولا يتلقى "لا"، بل يظل يترجم التردد، ويقرأ بين السطور، ويحاول أن يصنع من الصمت معنى.
نعم، الارتباط المعلّق هو شكل آخر من أشكال الرحيل… لكنه رحيل على مهل، لا يملك شجاعة المغادرة ولا دفء البقاء.
ولعل أقسى ما في هذا النوع من العلاقات، أنه لا يترك خلفه درسًا واضحًا ولا ذكرى مكتملة. فقط وجع باهت، لا نعرف كيف نصفه، ولا كيف نبرر لأنفسنا أننا بقينا طويلًا في علاقة لم تكتمل، ولم تنتهِ. لكننا تعلمنا، بطريقة ما، أن الصمت ليس دائمًا سلامًا، وأن الغموض لا يحمل دومًا سحرًا… أحيانًا، هو مجرد غياب مشاعر في هيئة حضور خادع.