الجمعة 19 ديسمبر 2025 01:00 صـ 27 جمادى آخر 1447هـ

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

آراء وكتاب

الفنانة التشكيلية منال عبد المنعم

منال عبد المنعم تكتب: على حافة القلب.. هشاشة مؤجَّلة

حين يُتَّخذ قرار إخفاء حقيقة التشخيص عن المريض، لا يبقى الأمر عند حدّ الإجراء الطبي أو التقدير الإنساني، بل يتشكّل في داخل الداعم عالمٌ موازٍ، لا يشبه العالم الذي يتحرّك فيه الآخرون. عالمٌ تحكمه بنية نفسية مركّبة، وصفها علم النفس الوجودي بأنها حالة «الوعي المزدوج»، حيث يحمل الإنسان معرفة حاسمة لا يُسمح لها بالظهور، ويواصل في الوقت نفسه أداء دور الطمأنة والحضور.

في هذا العالم تتراكب مقامات ثلاث: مقام المعرفة غير المُعلنة، ومقام الخوف المكبوت، ومقام الرحمة التي تفرض الصمت بوصفه فعل حماية، حتى لو كان ثمنه احتراقًا داخليًا بطيئًا. وتشير دراسات حديثة في أخلاقيات الطب إلى أن الحقيقة التي تُخفى لا تختفي من البناء النفسي للداعم، بل تتحول إلى عنصر مراقِب دائم للسلوك والانفعال، فتُقاس الكلمات، وتُوزن الابتسامات، ويُعاد ضبط كل حركة بعناية. إنها حالة يقظة مستمرة، أقرب لما يسميه علماء النفس بـ«الإجهاد المعرفي المزمن»، حيث يعيش الإنسان كأنه يسير فوق أرض تتشقق تحت قدميه دون أن تُصدر صوتًا.

ومع اللحظة الأولى التي يستقر فيها خبر التشخيص داخل وعي الداعم، لا يُستقبل بوصفه معلومة طارئة، بل كحدث وجودي يعيد صياغة العلاقة بالحياة والمعنى. فالخبر، وفق منظور فيكتور فرانكل، لا يضرب الجسد فقط، بل يختبر قدرة الإنسان على إنتاج معنى في مواجهة العدم. هنا تتفجّر أسئلة لم تكن مطروحة من قبل: ماذا يفعل الإنسان حين يكتشف أن ما اعتقده ثباتًا داخليًا لم يكن سوى ترتيب مؤقت صنعه الزمن؟ ولماذا يشعر أن الضربة لم تقع على الجسد وحده، بل على منظومة المعنى التي يستند إليها؟ في هذه اللحظة ينهار التوازن القديم، تمامًا كجدار تآكلت دعائمه بالرطوبة على مدى سنوات دون أن يلتفت أحد إلى علاماته المبكرة.

ومع امتداد الأيام، يدخل الداعم في طور من الإرهاق الوجودي، وهو إرهاق يتجاوز التعب الجسدي إلى إنهاك الوعي نفسه. تشير أبحاث الرعاية التلطيفية إلى أن مقدمي الدعم يعيشون شدًّا دائمًا بين قطبين متناقضين: حقيقة ثقيلة يختبرونها وحدهم، وطمأنينة مصطنعة يقدّمونها للمريض كي يظل العالم قابلًا للعيش. هذه الازدواجية لا تمثل عبئًا نفسيًا فحسب، بل تفرض صيغة حياة جديدة، يُجبر فيها الإنسان على الفصل بين وجهه الظاهر ووجهه الخفي. وفي لحظات العزلة، حين يُغلق الباب على نفسه، يهبط ذلك الظل الثقيل الذي لا يُعرّف بسهولة، لكنه يُعرف بأثره: اقتراب بارد من الروح، لا يهدف إلى الفناء، بل إلى سحب الإنسان نحو منطقة يبهت فيها المعنى. ويقاوم الداعم هذا الظل لا بالصراخ، بل بمحاولات صغيرة، متكررة، ليذكّر نفسه بأن الانهيار ليس قدرًا محتومًا، وأن الوقوف – حتى لو كان مهتزًا – ما زال ممكنًا.

ومع كل عودة إلى المريض، يعيد الداعم ترتيب شتاته على عجل قبل فتح الباب. فالدور الذي يؤديه ليس اجتماعيًا بالمعنى السطحي، بل عبور يومي بين حالتين متناقضتين: حالة يتآكل فيها داخليًا بصمت لا شهود له، وحالة يبذل فيها من قلبه ما لا يُسمح له بالاعتراف بأنه استنزاف. غير أن الشروخ التي يخلّفها هذا الحمل الطويل لا تبقى خفية إلى الأبد؛ تظهر في كسرة صوت عابرة، أو نظرة شاردة تتجه إلى الفراغ، كأنها تحاول استعادة شيء ضاع في الطريق. علم النفس التحليلي يصف هذه العلامات بأنها «تسرّبات لاواعية» لما عجز الوعي عن التصريح به.

ومن تراكم هذه التجربة تتشكّل فلسفة خاصة بهذا النوع من المعاناة؛ فلسفة لا تُدوَّن في الكتب لأنها لا تُستنبط بالعقل المجرّد، بل تُستخرج من الداخل كما تُستخرج المعادن من صخور صمّاء. فلسفة تقول إن الألم ليس حكرًا على المريض، وإن الداعم ليس ظلًا بلا احتياجات يُفترض به أن يبقى واقفًا إلى الأبد. فالرحلة، مهما بدت مشتركة، تُنهك كل من يخوضها بطريقة مختلفة، لكنها تتحاور في العمق، كطبقات متراكبة تعكس صدى واحدًا في صدور متعددة.

وبعد كل ما يُحمل في الصمت، وكل ما يُوارى تحت ركام الأيام، يظل سؤال واحد يتقدّم من قلب التجربة مطالبًا بحقه في النطق: إذا كان المريض في حاجة إلى سند، أفلا يكون من العدالة أن نسأل كيف يمكن للداعم أن يظل واقفًا بلا سند؟ ومن، إذن، يدعم الداعم؟

بالنهاية .. جاءت فكرة كتابة هذا المقال قبيل انطلاق الفاعلية الثانية بعنوان "الدعم النفسي لمرضى السرطان السابع عشر من نوفمبر 2025، والتي حالت ظروف خاصة دون حضورها، رغم الحاجة الملحّة إلى ذلك، لا سيما وأن محاضرها طان طبيب أورام مشهود له بالكفاءة والإنسانية. وبينما كان الأمل معقودًا على أن يسهم الحضور في تهدئة عقل مثقل بالأسئلة، تبيّن أن جوهر تلك الأسئلة قد وجد طريقه إلى التبلور في هذا النص نفسه.