السبت 13 ديسمبر 2025 01:23 صـ 21 جمادى آخر 1447هـ

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

آراء وكتاب

خالد مصطفى يكتب: من مطار أشبيلية بأسبانيا.. كيف يباع الضمير؟

كيف يبيع المرء ضميره في المزاد شخصيات كثيرة كانت تتزيّن بالمثالية لكن مواقف الحياة المتكررة كشفت معدنها الحقيقي فسقطت الأقنعة واحداً تلو الآخر إن بيع الضمير ليس حدثاً لحظياً بل سلسلة تنازلات تبدأ صغيرة ثم تتسع حتى يتحول الإنسان إلى نسخة لا تشبه المبادئ التي ادعاها يوماً فالأمر لا يحدث بضجيج ولا فى ليلة عاصفة بل يبدأ بخطوة صغيرة لا يسمعها أحد تنازل خافت يمر كأنه لا يُرى ثم تتبعه خطوة أكبر ثم أخرى حتى يصحو الإنسان يوماً ليجد أن قيمه معروضة على طاولة يرفع عليها الآخرون لافتة للبيع لمن يدفع أكثر فكم من شخص كان يملأ الدنيا حديثاً عن الفضيلة كأنها تُخلق من بين يديه يمشى بين الناس بثوب من نور وصوت مكسو بالحكمة لكن التجربة لا تطلب من أحد بطاقة التعريف التى يحملها التجربة تزيح الستائر فقط وحين تُضاء الأنوار يظهر كل شيء على حقيقته فبعض الوجوه تلمع وبعضها يبهت بعض القلوب تصمد وبعضها يتشقق من أول اختبار وهناك من كان يتغنى بالمثالية فإذا به أول من يخلع قناعه حين تقترب المصلحة أو يطل الإغراء من باب موارب فالحياة
لا تفضح أحد عبثاً لكنها تكشف ما كان مخفياً تحت الطلاء والغريب ليس سقوط الأقنعة هو المأساة بل المأساة الحقيقية أن البعض لم يكن يرتدى قناعاً بل كان يرتدى نفسه الحقيقية ويظنها جميلة هكذا يُباع الضمير ليس فى مزاد جماهيري بل داخل غرفة مغلقة يشهدها الإنسان وحده ويتحمل نتيجتها وحده إذاً كيف يُباع الضمير الضمير لايباع على منصة خشبية ولا أمام جمهور يرفع اللوحات الضمير يُباع فى ليلة هادئة حين يجلس الإنسان وحده ويعتقد أن
لا عين تراه حتى عين نفسه فالبيع لا يبدأ من الخارج بل من الداخل كقطرة صغيرة تتساقط على صخرة الروح تبدو هينة لا تُحدث أثراً لكنها تعود وتكرر نفسها وتُعيد التكرار حتى يتشقق الحجر وينفتح شق يسع كل التنازلات التى كان يظنها مستحيلة لا أحد يستيقظ صباحا ويقرر أن يضع ضميره فى المزاد الضمير لا يُنتزع دفعة واحدة بل يُؤخذ على هيئة شُرائح صغيرة غير مرئية تُقتطع من روح الإنسان دون أن ينتبه الخطوة الأولى دائمًا صامتة لطيفة تُشبه انحناءة خفيفة يبررها العقل مش مهم كل الناس بتعمل كده وهكذا تبدأ الحكاية ثم تأتي التجارب لا لتجرح بل لتكشف فالحياة ليست محكمة لكنها مرآة ومن يقف أمامها يفهم من يكون دون أن تُقال عليه كلمة واحدة وهناك أشخاص خاصة فى قريتى أنشاص الرمل اعتقدوا واعتقدنا معهم لسنوات طويلة بأن نقاءهم حقيقة وأن مبادئهم صلبة كالصوان حتى جاءت لحظة بسيطة لحظة لا صوت لها فإذا بكل هذا البناء العظيم ينهار بضغطة إغراء أو هزة خوف أو لحظة منفعة
فالمثالية ياحضرات ليست ما يقولوه ولا ما يظهروه أمام الناس المثالية تُقاس عندما لا يرانا أحد عندما يكون الطريق السهل معروضاً على الطاولة والطريق الصحيح مهجوراً مثل بيت قديم نسى الناس بابه وعند هذه النقطة تحديداً تظهر الفروق بين البشر من يقف ثابتاً حتى وإن ارتعشت يداه ومن يخلع ضميره كما تُخلع ملابس الليل ومن كان يظن نفسه ملاكاً فاكتشف أنه لم يكن يوماً سوى قناع أبيض فوق وجه باهت فالحياة لا تُعرى الناس الحياة فقط تنصرف عنهم قليلاً فتسمح لهم بأن يُعروا أنفسهم دون أن يشعروا وأفظع ما في بيع الضمير ليس أنه يباع بل أنه يُباع بثمن تافه كلمة إعجاب فرصة صغيرة خوف لحظي أو منفعة لا تستحق كل هذا السقوط الشنيع والقاسي فى الأمر أن من باع ضميره باعه لنفسه أولاً قبل أن يبيعه للناس جرحٌ من هذا النوع لا يلتئم لأنه جرحٌ لا يراه أحد سوى صاحبه وليس سقوط المبادئ حدثاً فجائياً بل هو هبوط بطيء يشبه نزول الظلام لا تعرف اللحظة التي غادرت فيها الشمس لكنك تستيقظ فجأة لتكتشف أنك تجلس فى عمق الليل فهناك العديد من الأشخاص الذين كانوا يتحدثون عن الفضيلة كما لو أنهم ورثوها عن أبائهم يرفعون رؤوسهم بثقة من يظن أن قلبه صكّ مختوم من السماء لكن التجارب القاسية منها والبسيطة لا تهدم ولا تُهين بل تُجرّد كل بياع من إنسانيته فتسحب ورقة بعد أخرى وتقشّر كل طلاء وتترك الجوهر واقفاً للأسف عارياً دون دفاعات وهناك فقط تنكشف الحقيقة لدينا فى أنشاص بعض النفوس كانت ذهباً فى أعيننا لكنها لم تعرف وبعض النفوس كانت قشاً لكنها صدقت أنها صخر وبعض النفوس لم تكن شيئاً على الإطلاق إلا ما كانت تدعيه الغريب والمحزن أن الضمير لا يُباع لأحد يظن الناس أنهم يبيعونه للعالم للمال للسلطة للخوف لكن الحقيقة المخيفة أن الضمير يُباع لصاحبه فقط هو البائع وهو المشترى وهو الخسارة الوحيدة في الصفقة والثمن .. ليس مالاً ولا مجداً ولا منفعة عظيمة الثمن غالباً كلمة خطوة لحظة ضعف طريق قصير جذب الإنسان من قميصه وقال له تعال لا أحد سيعرف ولا أحد عرف بالفعل إلا الإنسان وهذا يكفي ليترك ندبة لا تُرى على الجسد لكنها تُسمع فى النفس كلما صمت الليل ولعل أقسى ما في الحقيقة أن الحياة لا تفضح أحداً هي فقط تُعطي كل إنسان فرصة ليكشف نفسه وبعضهم بمجرد أن تختفي الأضواء ينهار كأنه لم يحمل يوماً ما ادّعاه أما الذين يحافظون على ضمائرهم فهؤلاء
لا يملكون قوة خارقة ولا ملائكة تحرسهم بل يملكون شيئاً واحداً خشية أن يقفوا أمام أنفسهم يوماً
ولا يعرفوها