السبت 15 نوفمبر 2025 03:25 مـ 24 جمادى أول 1447هـ

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

آراء وكتاب

مهمة انقاذ السودان

لم يتوقف في السودان نزيف الحروب الداخلية ، التى زادت سعارها أطراف دولية وإقليمية ، وكان الحصاد المريرفى ملايين القتلى والتفتيت المتصل ، كانت مساحة السودان عند إعلان استقلاله – أول يناير 1956 - تبلغ مليونين و 560 ألف كيلو مترا مربعا ، كان الدولة الأكبر مساحة فى أفريقيا والعالم العربى ، وتقلصت مساحته منذ أواسط يوليو 2011 إلى مليون و886 ألف كيلو متر مربع بعد الإنفصال و إعلان دولة مستقلة فى جنوب السودان ، لم تسلم هى الأخرى من نزيف الحروب الداخلية القبلية ، ومن دون تحقيق تنمية ذات مغزى ، لا فى الشمال الأكبر ولا فى الجنوب الأصغر (644 ألف كيلو متر مربع ) ، رغم أن السودان يملك كنوزا هائلة من الموارد الطبيعية المائية والبترولية ومن مناجم الذهب واليورانيوم وغيرها ، وكانت أجيالنا وأجيال السودان تتعلم دائما ، أن السودان يصلح لأن يكون سلة غذاء المنطقة العربية كلها ، وفيه أراض صالحة للزراعة تزيد عن 200 مليون فدان ، لم يستثمر منها إلا القليل النادر المهدد بغياب الاستقرار ، وصار السودان اليوم عنوانا لأكبر كارثة ومجاعة للأسف ، فنصف سكانه البالغ عددهم 50 مليونا وأكثر ضائعون بين النزوح واللجوء والمجاعة ، فوق نزيف الدم الذى سقط فيه ملايين القتلى فى حروب بدأت عام 1955 قبل الاستقلال ، ولا أحد عاقل يستبعد أن يضاف إقليم دارفور ( 510 آلاف كيلو متر مربع ) وأجزاء من إقليم "كردفان" المجاور إلى قوائم الانفصال عن السودان لا قدر الله .


كانت الحرب فى الجنوب وعليه هى الأطول زمنا ( 55 سنة) ، من "إنيانيا -1 " إلى "إنيانيا -2 " وحتى الحركة الشعبيه لتحرير السودان بزعامة " جون جارانج"، الذى كان يقول أنه يحارب من أجل تحرير السودان ووحدته القومية ، ثم ذهب "جارانج" إلى قتل غامض قبل نجاح حركته الشعبية ، وانفصل الجنوب واتخذ علما منفصلا عن العلم السودانى ، ومن دون أن يحصل على استقرار ولا على تنمية ، بل انخرط قادة الجنوب فى حرب قبلية بين مجموعتى "الدينكا" و"النوير" ، وبين الرئيس "سلفا كير" ونائبه السابق "رياك مشار" ، واليوم توشك أن تتكرر المأساة نفسها فى غرب السودان ، بين عائلة "دقلو" وعميدها "حميدتى" ونائبه "عبد العزيز الحلو" فى ما تسمى حكومة تأسيس ، يدعى الطرفان فى ميليشيات "الدعم السريع" وفى "الحركة الشعبية ـ جناح الشمال" أنهم يريدون تأسيس سودان جديد موحد ومختلف عن سودان 1956 ، وإذا نجح الانفصال الجديد لا قدر الله ، فلن يكون الكيان المنفصل أفضل حالا ، ولا عنوانا على عدالة ولا إنصاف وسلام من أى نوع ، فغرب السودان الذى اصطنعوا له علما جديدا مختلفا عن العلم السودانى ، لا يخلو من مظالم مفزعة ، ومن عسر التجانس ، ومن نزاعات الموارد بين الرعاة العرب والمزارعين الأفارقة ، ومن ثارات بين القبائل العربية وأهمها "الرزيقات" و"الأبالة" و"المهرية" و"المحاميد" و"بنى حسن" وغيرهم ، وبين القبائل الأفريقية وأهمها "الفور" و"الزغاوة" و"المساليت" وغيرهم ، وقد كان "المساليت" هم الضحايا الأكثر عددا فى مجازر مدينة "الفاشر" الأخيرة ، التى أفزعت ضمائر العالم من فرط دمويتها ووحشيتها ، وأثبت فيها "الدعم السريع" وأنصاره المدعين نسبا للديمقراطية ، أنهم لا يقلون همجية عن أبيهم ومعلمهم الذى فى "تل أبيب" وفى فلسطين المحتلة ، وما من وجه للتعجب ، فالجهات "العربية !" التى تدعمهم بتدفقات السلاح وبمليارات الدولارات المقتطعة أصلا من ذهب السودان المسروق المهرب ، تقوم صراحة بدور الوكيل الرسمى المعتمد لأعمال كيان الاحتلال "الإسرائيلى" فى المنطقة ، وخصوصا فى تنفيذ "استراتيجية شد الأطراف" التى اعتمدتها "إسرائيل" منذ أوائل ثمانينيات القرن العشرين .


قبل 45 سنة وأكثر ، صدرت الوثيقة السرية المعروفة باسم "استراتيجية إسرائيل فى الشرق الأوسط" ، وكان الذى كشفها ونشرها وقتها عالم الكيمياء "الإسرائيلى" المنشق "إسرائيل شاحاك" ، وتضمنت خططا مفصلة لتقسيم أغلب الدول العربية المحيطة والقريبة جغرافيا من كيان الاحتلال ، وكان الهدف رسم خرائط جديدة ، بتقسيم الدول القائمة الموروثة من زمن "سايكس ـ بيكو" على أسس قبلية وطائفية وعرقية ، وبهدف جعل "إسرائيل" الصغيرة عدديا كيانا أكبر فى المشرق العربى ، وإفساح المجال لإنجاز هدف إقامة "إسرائيل" الكبرى من "الفرات" إلى "النيل" ، وتأجيج النزعات الطائفية والعرقية والقبلية ، ثم استخدامها لإشعال الحروب الداخلية فى الأقطار العربية ، وتوظيف حضور الجميع بمن فيهم قطاعات واسعة من جماعات اليمين الدينى العربى لخدمة التقسيم وتجزئة المجزأ ، فقد كانت "سايكس ـ بيكو" على زمانها قبل أكثر من قرن ، قد قسمت الأمة إلى أقطار ، مع إنشاء "إسرائيل" كحاجز يفصل مشرق العالم العربى عن مغربه ، بينما المطلوب اليوم ومن زمن ، تقسيم الأقطار إلى أمم طائفية وقبلية صغرى ، وجعل "إسرائيل" سيدة المنطقة بلا منازع ولا مقاوم لطغيانها الممتد من الخليج إلى المحيط ، وهو ما يجرى اليوم بإسناد ميدانى من "أمريكا" ، التى حلت محل أدوار الاستعمارين البريطانى والفرنسى زمن "سايكس ـ بيكو" ، وهو ما يفعله اليوم الرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" الصديق الأعظم لكيان الاحتلال فى البيت الأبيض ، والذى قالها فى صراحة ووضوح مطلق ، قال "ترامب" مبكرا ما يلى "إسرائيل صغيرة ويجب توسيعها " ، والتكتيك الأمريكى ظاهر فى أماراته ، ويعتمد على المشاركة الفعلية فى حروب "إسرائيل" من جهة ، وعلى تعميم ما يسمى "اتفاقات أبراهام" من جهة أخرى ، وهذه الاتفاقات أخطر من سوابقها فى مجال التطبيع مع "إسرائيل" ، فهى ترمى إلى هندسة تحالف ميدانى من الدول العربية المعنية مع "إسرائيل" بالرعاية الأمريكية طبعا ، ومن وراء عناوين تكريس السلام بالقوة ، بينما يبدو الجسد العربى هامدا وفى أحوال "تحلل رمى" ، مع صرف الأنظار عن الدول العربية الجارى تقسيمها فى المشرق وفى الوسط "النيلى" ، واصطناع التساوى فى التعامل مع حكومة السودان المركزية ومع المتمردين عليها ، وطرح صيغ مسهلة لانفصال غرب السودان ، من نوع المبادرة المنسوبة لما يسمى "الرباعية الدولية" ، التى تضم ثلاث دول عربية برعاية واشنطن .


والمعروف أن واشنطن المندمجة استراتيجيا مع كيان الاحتلال "الإسرائيلى" ، حتى لو ضغطت تكتيكيا أحيانا على حكومات "إسرائيلية" بعينها ، قد تقدمت ـ من خلال مبعوثها "مسعد بولس" صهر "ترامب" ـ بمبادرة حملت اسم "الهدنة الإنسانية" ووقف إطلاق النار الموقوت، وافقت عليها فورا ميليشيات "الدعم السريع" وحكومتها الانفصالية ، بينما بدت حكومة السودان المركزية مترددة فى القبول بالمبادرة المسمومة ، التى تهدف لتكريس الأمر السودانى الواقع حاليا ، وإبقاء المكسب العسكرى لميليشيات التمرد فى كامل إقليم "دارفور" وبعض نواحى إقليم "كردفان" ، وترجمة الوضع العسكرى الموقوت إلى واقع سياسى دائم ، وحكومة الخرطوم ـ المقيمة مؤقتا فى بورسودان ـ على حق فى رفض المبادرة الأمريكية ، وفى التصميم المعلن للجيش السودانى على استعادة وتحرير كامل "دارفور" و"كردفان" وحفظ وحدة السودان ، وهذا واجب الجيش وحقه ، وهو يبذل غاية جهده ، ويستنفر مقاومة شعبية مضافة لجهد "القوات المشتركة" من فصائل "دارفور" ، وكان التحالف الواسع نجح فى طرد المتمردين من العاصمة الخرطوم وولايات قلب السودان ، ويحتاج إلى دعم مؤثر من دول عربية أحرص على وحدة السودان ، وفى مقدمتها "مصر" المهددة مصالحها الوجودية إن جرى التقسيم الجديد لا قدر الله ، فالعلاقات وثيقة وتاريخية بين الجيشين المصرى والسودانى ، وقد لا تكفى إجراءات التحوط داخل مصر وعلى حدودها الجنوبية ، بل لا بد من جهد مباشر فى الميدان السودانى ، وما يرشح من أخبار وتحركات راهنة ، يشير إلى دور عربى وتركى منسق مساند لمهمة إنقاذ السودان قبل فوات الأوان .

اقرأ أيضاً


وقد نتفهم طبائع المناورات والتصرفات الدبلوماسية ، لكنها قد لا تفيد يقينا فى صد الخطر الوجودى على السودان ، ولابد من مزج محسوب بين واجب الدبلوماسية وحق دعم السلاح السودانى ، خصوصا بعد أن فضحت مذابح "الفاشر" كل ما كان يجرى متخفيا ، فلسنا بصدد خلاف سياسى بين طرفين متحاربين فى السودان ، لسنا بصدد خلاف فى السودان ، بل بصدد حرب على وجود وسلامة السودان الذى نعرفه ، وداء السودان الذى لازمه منذ الاستقلال معروف للكافة ، ولم ينجح حكم مدنى ولا حكم عسكرى فى تجاوزه بصورة ناجزة ، فالسودان بلد عظيم المساحة هائل الموارد والتنوع القبلى ، وهناك نحو 500 مجموعة قبلية فى السودان ، وركود التنمية يعطل غايات التجانس السودانى الوطنى الجامع ، ولا ضمان لتجانس المجتمع ولا للتنمية بدون جهاز دولة قادر ، يطلق الطاقات ويوزع الأدوار ويستخدم الموارد بكفاءة وعدالة ، وهو ما افتقده السودان لعقود ، وقد تكون الحرب الجارية لمنع تقسيم إضافى للسودان هى واجب الوقت المتأخر ، وأن تأتى متأخرا خير من ألا تجى أبدا ، حمى الله السودان وأهله .


[email protected]

السودان حرب السودان حميديتى البرهان