السبت 8 نوفمبر 2025 12:58 مـ 17 جمادى أول 1447هـ

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

آراء وكتاب

يوم بلا شاشات!

هل يمكن أن نتخيّل يوماً كاملاً بلا "فيسبوك"، بلا "تيك توك"، بلا "سناب شات"، بلا "إعجابات" ولا "مشاركات" ولا إشعارات تلاحقنا كل دقيقة؟

هل نستطيع أن نبتعد يوماً عن السباق المحموم وراء “اللايك” و”الشير”، ونستعيد حياتنا كما هي… ببساطتها ودفئها وصدقها؟

هذا هو التحدّي الذي طرحته – ومازالت تطرحه – مبادرة "معاً.. يوم بلا شاشات"، تحت قيادة الدكتورة منى الحديدي، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، وعضو المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، وعضو المجلس الأعلى للثقافة.
دعوة لأن نمنح أنفسنا استراحة قصيرة من العالم الافتراضي، لنعود إلى التواصل الحقيقي مع الأسرة والأصدقاء، ونستثمر وقتنا في أنشطة واقعية تعيد إلينا طاقة الحياة بعيداً عن ضجيج التطبيقات والشاشات.

المبادرة نشاط وجهد جماعي لعدد من أساتذة الإعلام والخبراء الإعلاميين، وتستند إلى جهود توعوية واسعة تشمل المدارس والجامعات، بالإضافة إلى برنامج متكامل من الندوات والأنشطة الترويحية والترفيهية والثقافية والرياضية والفنية، بما يعيد أبناءنا إلى أجواء اللقاءات المباشرة والأنشطة الفكرية والإبداعية المتنوعة.

الهدف هو إعادة إحياء عادات مثل قراءة الكتب، وممارسة الفنون والموسيقى، واستثمار الوقت في أنشطة مفيدة تعيدنا مرة أخرى إلى العالم الواقعي بجمالياته وطاقاته الحقيقية.

والحقيقة أن الأمر جدّ خطير. ففي العام الماضي اعتمد قاموس أكسفورد مصطلح "تعفّن الدماغ" Brain Rot لعام 2024، وهو تعبير عن الحالة المزرية التي يصل إليها الإنسان جراء الاستخدام المفرط والمشاهدة المستمرة لمقاطع الفيديو القصيرة المعروفة بـ “الريلز”.

ويمكن اعتبار هذه المبادرة أيضاً صرخة احتجاج على المحتوى غير المقبول الذي يتم نشره عبر تلك التطبيقات، وخاصة عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي، وما يقدّمه المؤثرون من محتوى لا أخلاقي أو تافه. وقد انتبهت الدولة إلى ذلك مؤخراً وبدأت في إلقاء القبض على عدد كبير منهم، ورأينا كيف كان المستوى… وكيف كانت الأغراض… وكيف كانت النتيجة!

والخطير أيضاً في هذه القضية ما كشفته الدراسات الحديثة من أن الاستخدام المفرط لمواقع التواصل الاجتماعي يترك أثراً مباشراً على الصحة النفسية للشباب، حيث يزيد من معدلات القلق والاكتئاب، ويقلّل من التركيز وجودة النوم. كما يقضي الأطفال والمراهقون ساعات طويلة على تلك المنصات على حساب الرياضة والهوايات وحتى الجلسات العائلية.

ومن هنا تأتي أهمية أن يكون هناك يوم في السنة نتفق فيه جميعاً على ترك هذه المواقع جانباً، والعودة إلى ممارسة أنشطة حياتية طبيعية مثل القراءة والتنزه واللعب أو مجرد محادثة وجهاً لوجه.

وليس هذا جديداً على العالم؛ فقد سبقتنا إليه دول عدة أطلقت مبادرات مشابهة. ففي الولايات المتحدة وكندا ظهرت مبادرة Disconnect to Connect التي تشجع الأسر والأفراد على إغلاق الأجهزة ليوم واحد واستثمار الوقت في التواصل الحقيقي.

وفي فرنسا خصّصت بعض المدارس أياماً بلا هواتف محمولة لإعادة الانتباه إلى أهمية التفاعل المباشر بين الطلاب.

أما في الهند فقد أطلقت منظمات أهلية حملات تحت عنوان Digital Detox Day.

للحد من الإدمان الرقمي وتعزيز الوعي بخطورة الاستخدام المفرط للشاشات، برزت في السويد تجربة رائدة عُرفت باسم "أسبوع بلا شاشات – Screen-Free Week"، حيث تبنّت بعض المؤسسات التعليمية والثقافية هذه المبادرة، ونظّمت أنشطة بديلة للأطفال والعائلات تشمل القراءة والرياضة والفنون، بهدف تعزيز قيمة الوقت الحقيقي بعيدًا عن الأجهزة.

وقد أثبتت هذه التجارب أن تخصيص يوم سنوي بلا شاشات ليس مجرد رمز، بل خطوة عملية لتذكير المجتمعات بضرورة التوازن بين العالم الرقمي والواقعي.

كما تستهدف هذه المبادرات الأسرة التي يقع على عاتقها دور كبير في تشجيع أبنائها، ليس فقط من خلال التوجيه، وإنما عبر القدوة المباشرة؛ فوجود الأهل جنبًا إلى جنب مع أبنائهم يمنح المبادرة أثرًا أكبر ويجعلها تجربة أسرية ممتدة.

وهنا يأتي دورنا جميعًا: شبابًا وأطفالًا وأسرًا.

لنجعل من مبادرة "معًا.. يوم بلا شاشات" موعدًا سنويًا نلتزم به ونعيشه معًا.

دعونا نترك مواقع التواصل الاجتماعي ليوم واحد فقط، لنضيء قلوبنا بعلاقات أصدق، ونعيد اكتشاف متعة الحياة بعيدًا عن العالم الافتراضي. فلتكن دعوتنا صريحة:

شاركونا المبادرة، وكونوا جزءًا من تجربة جماعية تُثبت أن الواقع أجمل دائمًا من الشاشة.

وكمتخصص أعلم أن المبادرة لن تنجح مع الجميع، فلا أعتقد أن كثيرين سيتمكنون من البقاء يومًا كاملًا بلا شاشات. فالبعض قد يصمد لسويعات قليلة، وهذا طبيعي. تمامًا كما نُدرّب الطفل على الصيام بالتدريج؛ يبدأ حتى أذان الظهر، ثم حتى العصر، حتى يصل يومًا لصيام كامل.

كذلك المنضم للمبادرة سيستطيع أن يتعرّف إلى درجة إدمانه وقوة إرادته، وسيكتشف شكل حياته دون تلك الأجهزة:

هل لديه حياة حقيقية؟ أم أنه يحتاج إلى مراجعة نفسه ومحاولة بناء حياة واقعية بناءة وفاعلة؟

وبعد نجاحه في تنفيذ يوم بلا شاشات، نتمنى أن يعود للاستخدام مرة أخرى بمنظور جديد، أكثر وعيًا بالمخاطر، وأكثر قدرة على التوازن بين الشاشة وعالمها الافتراضي وبين الحياة الطبيعية التي أنعم الله بها علينا منذ لحظة الميلاد لنقدّرها ونستمتع بها.

وإليك عزيزي المعترض أو الذي يعتقد بعدم القدرة على الانضمام للمبادرة، أقول لك ببساطة:

"جرّب"… فالتجربة خير دليل.

لن يفوتك الكثير عند الانضمام، ولكنك ستكسب الكثير… وعلى رأس المكاسب: نفسك التي بين جنبيك.