التعليم.. استثمار استراتيجي في رأس المال البشري ومفتاح نهضة الأمم
بقلم : طه المكاوى
لم يعد التعليم في عالم اليوم مجرد خدمة اجتماعية تقدمها الدولة لمواطنيها، ولا ترفًا يمكن تأجيله أو التقليل من أهميته. لقد أصبح ـ وبشكل قاطع ـ استثمارًا استراتيجيًا في رأس المال البشري، ومحركًا رئيسيًا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وعنصرًا حاسمًا في تحديد موقع الدول على خريطة التنافسية العالمية. فالأمم التي أدركت مبكرًا قيمة التعليم النوعي هي وحدها التي ضمنت لنفسها مكانًا متقدمًا في سباق التقدم والريادة.
التعليم بوابة العبور إلى المستقبل
يعيش العالم اليوم مرحلة غير مسبوقة من التحولات الاقتصادية والتكنولوجية المتسارعة. ومع هذا التسارع، لم تعد الثروات الطبيعية معيار القوة الحقيقية للدول، بل أصبح معيار التفوق يتمثل في امتلاك عقول قادرة على الابتكار والمعرفة والإنتاج. فالدول التي نجحت في التكيف مع هذا الواقع الجديد هي تلك التي جعلت التعليم محورًا لسياساتها التنموية، واعتبرته مشروعًا وطنيًا طويل المدى لا يخضع لتغير الحكومات أو تبدّل السياسات.
رأس المال البشري.. الثروة التي لا تنضب
الحقيقة التي أثبتها التاريخ والواقع أن الثروة الحقيقية لأي دولة لا تُقاس بما تمتلكه من نفط أو ذهب أو احتياطات مالية، بل بما تمتلكه من عقول مبدعة وطاقات بشرية مؤهلة. فالمعرفة اليوم هي القوة، والتعليم هو الوسيلة الوحيدة لبناء تلك القوة. تراكم المهارات والخبرات لدى الأفراد هو ما يصنع الفارق بين أمة وأخرى، وهو ما يحول المجتمعات من مستهلكة إلى منتجة، ومن متلقية للتكنولوجيا إلى صانعة لها.
سنغافورة وكوريا الجنوبية.. الدليل الذي لا يمكن تجاهله
ليست هذه مجرد نظريات مثالية؛ فهناك نماذج واقعية تؤكد أن التعليم النوعي قادر على صناعة المعجزات. فسنغافورة وكوريا الجنوبية ـ وهما دولتان تفتقران إلى الموارد الطبيعية ـ تحولتا إلى قوتين اقتصاديتين عالميتين بفضل الإرادة السياسية التي وضعت التعليم في صدارة الأولويات. فحين يُستثمر في الإنسان أولًا، تأتي بقية الإنجازات تباعًا.
أرقام تؤكد الحقيقة
الاقتصاد ذاته ـ بالأرقام ـ يدعم هذه الرؤية. إذ تؤكد الدراسات الحديثة أن كل سنة إضافية في التعليم ترفع دخل الفرد بنسبة تتراوح بين 8 إلى 10%، كما أن زيادة متوسط سنوات التعليم بسنة واحدة يمكن أن ترفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تصل إلى 0.37% سنويًا. وهي أرقام تكشف دون مواربة أن التعليم ليس عبئًا على ميزانية الدولة، بل أحد أهم أدوات تعظيمها.
التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.. شركاء في معادلة التطوير
ولأن العالم يتجه نحو اقتصاد معرفي يعتمد على الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة، فإن دمج هذه الأدوات في المنظومة التعليمية لم يعد خيارًا تكميليًا، بل ضرورة وجودية. فالأجيال القادمة لن تنافس فقط على مستوى وطني، بل ستخوض سباقًا عالميًا، وسوق العمل لن يرحم من لم يمتلك المهارات الرقمية والمعرفية المتقدمة.
---
الخلاصة أن الاستثمار في التعليم ليس مجرد إنفاق، بل هو الضمان الحقيقي لاستدامة النمو، وتحقيق النهضة الشاملة، وبناء وطن قادر على المنافسة لا التبعية.
فالأمم لا تُبنى بالعمران وحده، بل تبنى بإنسان متعلّم، مبدع، واثق من قدراته، وقادر على صناعة مستقبله بيده.