الجمعة 15 أغسطس 2025 02:02 صـ 19 صفر 1447هـ

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

آراء وكتاب

ما هو الذكاء الاصطناعي العاطفي؟


✍️ بقلم: الدكتور ناصر الجندي
خبير تربوي

هل تستطيع الآلة أن تشعر؟
تخيّل أن تتحدث مع جهاز كمبيوتر، فيلاحظ من نبرة صوتك أنك متعب، فيعرض عليك أخذ استراحة. أو أن روبوتًا تعليميًا يكتشف أنك بدأت تشعر بالإحباط أثناء حل مسألة رياضية، فيغيّر طريقة الشرح بلطف.
قد يبدو هذا خيالًا، لكنه اليوم أقرب إلى الواقع مما نعتقد، بفضل مجال جديد وسريع النمو يُعرف باسم الذكاء الاصطناعي العاطفي (AEI).
هذا هو محور مقالنا الأول من سلسلة "الفصل الدراسي الواعي"، التي سنخوض فيها رحلة لفهم كيف يمكن لهذا النوع من الذكاء أن يغير مستقبل التعليم، ويجعل العلاقة بين الطالب والتكنولوجيا أكثر إنسانية وتعاطفًا.

ما هو الذكاء الاصطناعي العاطفي؟
الذكاء الاصطناعي العاطفي هو فرع من الذكاء الاصطناعي يهدف إلى تمكين الأجهزة من قراءة مشاعر الإنسان وفهمها والتفاعل معها بطريقة ذكية ومناسبة للسياق (Afzal et al., 2024).
لكن كيف ذلك؟
من خلال تحليل تعابير الوجه، نبرة الصوت، الكلمات المكتوبة، وحتى الإشارات الفسيولوجية مثل نبض القلب أو تعرّق اليدين، تستطيع الأنظمة الذكية أن "تخمن" مشاعرنا وتستجيب لها. ليس فقط على مستوى الوظيفة، بل على مستوى التفاعل العاطفي.
بكلمات بسيطة، AEI يسعى لتحويل الآلات من أدوات جامدة إلى كائنات رقمية "تبدو" حنونة، متفهمة، وأكثر قربًا من طبيعتنا البشرية.

جذور الفكرة: بداية من الحلم إلى الواقع
رغم أن فكرة "الروبوت المتعاطف" ظهرت في أفلام الخيال العلمي منذ سنوات، فإن البوابة العلمية الحقيقية لهذا المجال فُتحت عام 1997، عندما نشرت الباحثة روزاليند بيكارد من MIT كتابها المؤسس Affective Computing.
فيه، طرحت بيكارد سؤالًا ثوريًا: لماذا نفترض أن العواطف تعيق الذكاء؟
ألم يحن الوقت لنفكر في أن العاطفة جزء من الذكاء نفسه؟ (Picard, 1997).
بيكارد لم تقدم أفكارًا نظرية فقط، بل وضعت الأساس العلمي لتطوير أنظمة حوسبية تتفاعل مع المشاعر، وأشارت إلى أن إغفال البعد العاطفي يجعل الأنظمة الذكية غير مكتملة (Daily et al., 2017).

كيف "تفهم" الآلة مشاعر الإنسان؟
لعل المثير هنا ليس أن الآلة تتكلم، بل أن تفهم "كيف تشعر" وأنت تتكلم. إليك كيف يتم ذلك:
تحليل تعابير الوجه (Visual Emotion Recognition)
تقوم الخوارزميات بتفسير تفاصيل دقيقة في الوجه مثل حركة الحواجب، زاوية الابتسامة، أو رمشة العين لتحديد الحالة العاطفية (Afzal et al., 2024).
تحليل نبرة الصوت (Speech Emotion Recognition)
يتم تحليل مدى حدة الصوت، سرعته، نبرته، وحتى الصمت بين الكلمات، لاكتشاف إن كنت سعيدًا، متوترًا أو غاضبًا (Afzal et al., 2024).
تحليل النصوص (Textual Emotion Recognition)
تُستخدم تقنيات معالجة اللغة الطبيعية (NLP) لتحليل ما تكتبه على الشاشات من كلمات، رموز تعبيرية، علامات ترقيم، لاستخلاص المشاعر التي تقف وراء النص (Afzal et al., 2024).
تحليل البيانات الحيوية (Physiological Signals)
تشمل مراقبة نبض القلب، نشاط الدماغ، درجة حرارة الجلد، وغيرها من الإشارات الفسيولوجية التي تتغير مع الحالة النفسية (Afzal et al., 2024).
عندما يتم دمج هذه الطرق معًا، تحصل الأنظمة على رؤية شاملة ودقيقة للمزاج العاطفي للشخص.

أين نرى هذه التقنية اليوم؟
تبدو الفكرة مذهلة، لكنها ليست خيالًا علميًا. إليك بعض المجالات التي بدأت فعليًا في استخدام الذكاء الاصطناعي العاطفي:
الرعاية الصحية: لمراقبة المرضى نفسيًا وعاطفيًا، ومساعدة الأطباء في فهم تقلبات الحالة المزاجية (Daily et al., 2017).
التعليم: حيث يمكن للنظام اكتشاف متى يشعر الطالب بالملل أو الإحباط، ليعدل المحتوى أو وتيرة الشرح (وسيتم مناقشته بالتفصيل في المقال القادم).
السيارات الذكية: لاكتشاف إذا كان السائق نعسانًا أو غاضبًا، ومن ثم إطلاق تنبيهات لتحسين السلامة.
التسويق وتحليل المستهلكين: لفهم ردود الفعل العاطفية تجاه الإعلانات والمنتجات.
الألعاب التفاعلية: لتقديم تجارب أكثر واقعية، حيث تتفاعل الشخصيات مع مشاعر اللاعب.
الرقابة والأمن: لرصد السلوكيات غير الطبيعية أو العدوانية – وهذا الاستخدام يثير نقاشًا أخلاقيًا كبيرًا حول الخصوصية.

التحديات الأخلاقية: هل نحن مستعدون فعلًا؟
لا يمكن الحديث عن الذكاء العاطفي الاصطناعي دون التوقف أمام عدد من الأسئلة الأخلاقية الحساسة:
هل من المقبول أن تُسجَّل مشاعرنا دون إذن واضح؟
هل الخوارزميات ستكون عادلة، أم أنها ستحمل تحيزات ثقافية وجندرية؟
هل سنثق بآلات "تبدو" متعاطفة؟ أم أننا سنرفضها لأنها لا "تشعر حقًا"؟
وماذا عن التأثير النفسي على الأطفال والطلاب؟
هل سيفضلون التحدث إلى الروبوتات بدل البشر؟
كل هذه تساؤلات مشروعة، وتحتاج إلى نقاش جماعي وتنظيم قانوني واضح (Daily et al., 2017).

بين الحلم والواقع
نحن لا نعيش في فيلم خيال علمي، بل في واقع يتغير بسرعة.
الذكاء الاصطناعي العاطفي يفتح لنا أبوابًا جديدة لفهم أنفسنا، ولتحسين الطريقة التي نتفاعل بها مع التكنولوجيا – بل ومع بعضنا البعض.
لكن، كما هو الحال مع كل قوة تكنولوجية جديدة، يبقى السؤال الأساسي:
هل سنستخدم هذه القوة لبناء تعليم أكثر إنسانية، أم نسمح لها بالتحكم في إنسانيتنا؟
في المقال القادم، سنغوص في قلب البيئة التعليمية، لنكشف كيف يمكن أن يتجلى الذكاء العاطفي الاصطناعي في الفصول الدراسية، وكيف سيعيد تشكيل دور المعلم، ومكانة الطالب، وحتى العلاقة مع "الآلة الذكية".