السبت 26 يوليو 2025 11:17 مـ 30 محرّم 1447هـ

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

ثقافة

قراءة موضوعية في السيرة العلمية والثقافية للدكتور محمد ثروت

الدكتور محمد ثروت أستاذ فلسفة الإعلام
الدكتور محمد ثروت أستاذ فلسفة الإعلام

يشكل الدكتور محمد ثروت ظاهرة فكرية وإعلامية متعددة الأبعاد، تجتمع فيها الأكاديمية الصارمة مع التجربة الصحافية الميدانية، ويتميز مساره الفكري بالتفاعل بين الإعلام الرقمي، وفلسفة التاريخ، والسير الذاتية، وحوار الثقافات. تكتسب دراسة تجربته أهمية خاصة نظرًا لدوره الريادي في نشر الثقافة الرقمية العربية، وانفتاحه على قضايا الشعوب، لا سيما قضايا الاستقلال والعدالة الاجتماعية، مثلما فعل في دعمه لقضية كوسوفا.

الفصل الأول: النشأة والتكوين الأكاديمي

أولًا: النشأة والتكوين الأكاديمي

وُلد الدكتور محمد ثروت عطية في سياق اجتماعي وثقافي مصري مشبع بروح القومية والفكر التنويري، خلال فترة شهدت فيها مصر تحولات كبرى على المستويين الثقافي والسياسي، الأمر الذي أسهم في تشكيل وعيه المبكر بالقضايا الوطنية والفكرية. نشأته في بيئة متداخلة بين الريف والمدينة، وبين الأزهر والتعليم المدني، زرعت فيه منذ الطفولة ملامح باحثٍ يتقاطع فيه الحس اللغوي مع الرؤية النقدية.

التحق بكلية الآداب، قسم اللغة العربية في جامعة القاهرة، وهي واحدة من أعرق مؤسسات التعليم العالي في العالم العربي، وهناك بدأ مشواره الأكاديمي بتتلمذٍ مكثف على يد قامات فكرية بارزة تركت أثرًا بالغًا في تكوينه. فقد تلقى تعليمه في ظل وجود الشاعر الكبير فاروق جويدة، الذي ترأس القسم الثقافي وقتها في الصحافة المصرية، فكان له الأثر البالغ في غرس مفاهيم الذائقة الأدبية والشجاعة التعبيرية، إذ كان يردد أن “اللغة إن لم تُحرّك الضمير، فلا تُغني شيئًا”. هذه البيئة الأدبية المتحررة أكسبت ثروت أدوات التعبير الراقي والالتزام بقضايا الإنسان.

كما تأثر بالمفكر اليساري الكبير الدكتور محمد سيد أحمد، صاحب الكتابات الجريئة في النقد السياسي، الذي عرّفه على مفاهيم العمق الاجتماعي والنقد البنيوي، وكان من أبرز الدروس التي تعلمها منه – كما نقل عنه لاحقًا – أن “الناقد الحقيقي هو من يستطيع أن يُسمِع صوته دون أن يُقصى من المنبر”، وهي قاعدة لازمته طيلة مسيرته الإعلامية لاحقًا.

هذا المزج بين الشعر والسياسة، بين الذائقة والوعي، دفعه إلى تجاوز النصوص إلى خلفياتها الثقافية والسوسيولوجية، وهو ما بدا واضحًا لاحقًا في مؤلفاته التي مزجت الإعلام بالفكر.

بعد حصوله على درجة البكالوريوس، واصل الدكتور ثروت دراسته العليا بنظرة تتجاوز حدود اللغة إلى آفاق الفلسفة الحديثة، فكان اختياره التخصص في فلسفة الإعلام خطوة غير مألوفة في ذلك الوقت، مما يعكس وعيًا مبكرًا بتحولات الاتصال في العالم، ودور الإعلام في إعادة تشكيل المعنى والحقيقة.

نال الدكتوراه الأولى من جامعة مونستر الألمانية، إحدى أرقى الجامعات الأوروبية التي تهتم بالفكر النقدي، وقد مكّنته هذه التجربة من الاحتكاك المباشر بالفلسفات الأوروبية الحديثة، خصوصًا مدرسة فرانكفورت ونظرية الإعلام الجماهيري، وهو ما انعكس في طرحه لمفهوم الإعلام كأداة تحوُّل ثقافي، لا مجرد وسيلة تواصل.

أما الدكتوراه الثانية، التي حصل عليها من جامعة الزقازيق في مصر، فقد كانت بمثابة تأصيل عربي لمجمل تجربته الفكرية، ودمجًا بين المعطى الفلسفي الغربي والخصوصية الثقافية العربية، ليكون بذلك قد أسس قاعدة معرفية متينة تؤهله لأن يكون أحد أبرز المنظرين العرب في مجال الإعلام الرقمي وفلسفته.

ملاحظات تحليلية:

  • التحول من دراسة اللغة العربية إلى فلسفة الإعلام يمثل انتقالًا من التركيز على بنية اللغة إلى تحليل آليات تشكيل الرأي العام والمعنى الثقافي في العصر الرقمي.

  • الازدواج في الدراسات العليا (ألمانيا ومصر) يُبرز رغبة الدكتور ثروت في الجمع بين الرؤية العالمية والتأصيل المحلي.

  • التأثر بالفكر اليساري القومي ساعد في بلورة موقفه من قضايا الشعوب وحقوقها، ومنها موقفه الصريح والمؤيد لقضية كوسوفا لاحقًا.

ثانيًا: الخبرة الصحفية والتأسيس المهني

شكّلت الصحافة مبكرًا البوابة الأولى التي عبَر منها الدكتور محمد ثروت نحو فضاء الفكر العام والمجال العام العربي. ففي منتصف تسعينيات القرن الماضي، وبينما كان لا يزال طالبًا في قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة، التحق بالعمل الصحفي في الطبعة الدولية لجريدة الأهرام، بإشراف الكاتب الكبير الراحل صلاح الدين حافظ، أحد أبرز رموز الصحافة المصرية والعربية. لم يكن ذلك مجرد بداية مهنية، بل بمثابة الانخراط العملي المبكر في مدرسة صحفية عريقة ذات مرجعية قومية وحداثية.

في كواليس التحرير، تعرّف محمد ثروت على تقنيات العمل الصحفي المهني، وتمرّس على أدوات التحرير، وأسس الكتابة السياسية والثقافية، فصقل مهاراته على يد صحافيين كبار، وتلقى توجيهات مباشرة جعلته لا يرى في الصحافة مجرد مهنة، بل وظيفة اجتماعية وأخلاقية في خدمة الحقيقة والوعي العام.

لاحقًا، تنقّل بين مؤسسات إعلامية عربية ودولية بارزة، فعمل في جريدة “القدس العربي” التي تصدر من لندن، وهي جريدة ذات توجه قومي ناقد، حيث نهل من فكر الكاتب حسنين كروم، الذي عرّفه على تقاليد الفكر العروبي والنقد السياسي الجذري، خاصة في سياقات ما بعد الاستعمار والتحولات العربية.

كما التحق بمؤسسة إذاعة هولندا العالمية عبر موقعها العربي، حيث تولّى منصب نائب رئيس التحرير، تحت إدارة الإعلامي المصري الهولندي سعيد السبكي. وقد ساعده هذا الانتقال إلى الصحافة الدولية على اختبار آفاق أوسع لحرية التعبير، ومفاهيم الإعلام متعدد الثقافات، ما شكّل وعيًا عالميًا لديه تجاه قضايا الإعلام والمجتمع.

لكن نقطة التحول الكبرى في مسيرته المهنية جاءت مع مشاركته في تأسيس موقع وجريدة "اليوم السابع"، التي انطلقت في سياق رقمي محلي وعربي يتطلب منصات جديدة تتجاوز الإعلام التقليدي. وقد شغل فيها منصب مدير التحرير، واضطلع بدور محوري في بناء الرؤية التحريرية للموقع، وربطه بالتحولات التقنية العالمية، حتى أصبحت الجريدة لاحقًا من بين أكثر المواقع العربية تأثيرًا وانتشارًا.

لقد مزج الدكتور ثروت خلال هذه المرحلة بين الصحافة الورقية التقليدية والمنصات الرقمية الناشئة، مؤمنًا بأن الإعلام الجديد لا يُلغي القديم، بل يعيد تشكيله. وتظهر هذه الفلسفة في عدد من مقالاته وكتبه، حيث يؤكد على ضرورة الموازنة بين المحتوى العميق والتقنية السريعة، ويرى في الإعلام سلطة موازية تُعيد بناء الإدراك الاجتماعي وليس فقط نقله.

تحليل نقدي:

  • تعدد البيئات الصحفية (مصرية، عربية، أوروبية) أتاح له تطوير أسلوب تحرير يجمع بين الصرامة المهنية والحرية الفكرية.

  • الاحتكاك المباشر بنماذج فكرية قومية ويسارية (كروم، سيد أحمد) رسّخ لديه نزعة الدفاع عن قضايا الاستقلال والهوية، ما سيبرز لاحقًا في مواقفه تجاه فلسطين وكوسوفا.

  • التأسيس لمشروع إعلامي رقمي (اليوم السابع) يكشف عن روح ريادية مبكرة وقدرة على الانتقال من الصحفي الميداني إلى صانع القرار الإعلامي.

اقتباس توثيقي:

"تعلّمت في الصحافة أن أكون عين المواطن لا أذنه فقط، وأن تكون الكلمة مدخلًا للحقيقة لا غطاءً عليها."
(من مقابلة مع الدكتور محمد ثروت ضمن أرشيف قناة 25TV، 2013)

ثالثًا: الريادة في الإعلام الرقمي

برز الدكتور محمد ثروت كأحد أبرز روّاد الإعلام الرقمي في العالم العربي، ليس فقط من خلال كتاباته ومحاضراته، بل عبر مساهمته العملية في بناء مؤسسات رقمية رائدة، ورسم استراتيجيات تحريرية وتدريبية لمواجهة تحديات العصر الرقمي. لقد فهم الإعلام الجديد مبكرًا بوصفه تحوّلًا معرفيًا عميقًا لا مجرد تطور تقني، وتعامل معه من منظور فلسفي ونقدي يربط التقنية بالهوية والمعرفة والسلطة.

من أبرز محطاته في هذا المجال تولّيه منصب الرئيس التنفيذي للمجلس الدولي للإعلام الرقمي CIFJEE في فرنسا، وهي هيئة دولية تهدف إلى تطوير معايير الإعلام الرقمي، والتدريب على الصحافة الإلكترونية، وتعزيز حرية التعبير عبر الفضاء الرقمي. وقد ساهم من خلال هذه المنصة في إقامة دورات تدريبية وورش عمل دولية، ناقشت قضايا حرية التعبير، والمهنية، وحقوق النشر، والتحقق من الأخبار.

إسهاماته النظرية في الإعلام الرقمي:

قدّم الدكتور محمد ثروت عددًا من المؤلفات الأساسية التي تُدرَّس في كليات الإعلام والاتصال، وتُعد اليوم مراجع تدريبية ومناهج أكاديمية في عدد من الجامعات العربية، من أبرزها:

  • "مقدمة في الإعلام الرقمي": يتناول فيه المفاهيم الأولية للتحول من الإعلام الورقي إلى الإعلام الإلكتروني، ويعرض تطور النماذج الاتصالية في ظل الثورة الرقمية.

  • "راديو الإنترنت": يحلل فيه إمكانيات الراديو الإلكتروني كأداة ديمقراطية بديلة، خاصة في المجتمعات التي تعاني من هيمنة الإعلام الرسمي.

  • "كيف تنشئ صحيفة؟": دليل عملي وتطبيقي يستعرض فيه مراحل تأسيس وإدارة مؤسسة إعلامية رقمية، من اختيار فريق التحرير إلى التسويق والمحتوى التفاعلي.

تمتاز هذه المؤلفات بلغة مبسطة ولكن دقيقة، وبمنهجية أكاديمية تستند إلى التجربة والملاحظة الميدانية، ما يجعلها مناسبة لطلبة الإعلام والممارسين المهنيين في آنٍ معًا.

المفهوم النقدي للإعلام الجديد:

لم ينظر الدكتور ثروت إلى الإعلام الرقمي كمجرد أداة، بل رآه كتحول بنيوي يعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والمعلومة. في عدد من مقالاته يؤكد أن:

"الإعلام الرقمي ليس فقط منبرًا لنشر الأفكار، بل فضاء تتشكل فيه الهويات، وتُعاد فيه صياغة الحقيقة."
(من مقاله “تحولات الإعلام العربي: من الورق إلى الوعي الرقمي”، نُشر في مجلة الدراسات الإعلامية، 2018)

وقد تبنّى أيضًا مفهوم "الإعلام التفاعلي" بوصفه ضرورة مجتمعية، تُخرج المتلقي من موقع الاستهلاك إلى دائرة الفاعلية، داعيًا إلى بناء وعي رقمي مقاوم للهيمنة المعرفية وللاستهلاك غير الواعي للمعلومات.

ريادته في التدريب والتعليم:

كجزء من مشروعه في نشر الثقافة الإعلامية الرقمية، أشرف الدكتور محمد ثروت على عدة برامج تدريبية في الجامعات والمؤسسات الإعلامية، وشارك كأستاذ زائر في:

  • كلية الإعلام – جامعة الأزهر

  • جامعة النهضة – مصر

  • جامعة بني سويف

  • الأكاديمية الدولية للهندسة وعلوم الإعلام

في هذه الدورات، ركّز على محاور الابتكار في الصحافة الرقمية، التحقق من الأخبار (Fact-checking)، وتحديات الصحافة الأخلاقية في زمن الذكاء الاصطناعي.

تحليل أكاديمي:

  • يُعد الدكتور ثروت من قلائل من جمعوا بين التنظير الأكاديمي والتطبيق المهني في الإعلام الرقمي.

  • تميّزت مؤلفاته بالجمع بين المنهج التحليلي والتجريبي، وحرص على توثيق الحالات العربية لا الاكتفاء بالنماذج الغربية.

  • أسهم في بناء شبكة تدريب إعلامي عربي ترتكز على كسر المركزية الغربية في إنتاج المعرفة الإعلامية.

رابعًا: السرد التاريخي وكتابة السير الذاتية

تُعد تجربة الدكتور محمد ثروت في كتابة السير الذاتية والتأريخ المعرفي من أبرز ملامح مشروعه الثقافي، إذ لا يكتفي بتوثيق حياة الشخصيات، بل يعيد من خلالها قراءة التاريخ، ويكشف عن السياقات الاجتماعية والسياسية التي أحاطت بها. فهو يتعامل مع السيرة الذاتية بوصفها حقلًا معرفيًا مزدوجًا: توثيقيًا من جهة، وتأويليًا من جهة أخرى، جامعًا بين تقنيات الكتابة الصحفية والأسلوب السردي الأدبي، مع مراعاة الصدق التاريخي والتأصيل الوثائقي.

مقارباته في كتابة السيرة:

يعتمد الدكتور ثروت في بناء السير الذاتية على ثلاث ركائز رئيسة:

  1. السرد التحليلي: فلا يكتفي برصد الأحداث زمنياً، بل يُعيد ترتيبها وفق بنية سردية قائمة على التحليل النفسي والسياسي والثقافي.

  2. التوثيق المرجعي: إذ يستند إلى أرشيفات نادرة، ووثائق رسمية، وشهادات من معاصري الشخصية التي يتناولها.

  3. الرؤية الإنسانية: حيث يُبرز البعد الإنساني للشخصية – فقرها، نضالها، ترددها، وتحولاتها – مما يجعل القارئ يتفاعل معها وجدانيًا لا معرفيًا فقط.

من أبرز مؤلفاته في هذا المجال:

  1. الأوراق السرية لأول رئيس لمصر: اللواء محمد نجيب

يوثق هذا الكتاب مسيرة اللواء محمد نجيب، أول رئيس لمصر بعد الثورة، ويكشف عن الصراعات الخفية داخل مجلس قيادة الثورة، والتهميش الذي تعرض له، ومراحل نفيه الطويلة. لا يُقدم ثروت في هذا الكتاب سردًا تقليديًا، بل يعيد تفكيك خطاب السلطة والثورة معًا، من خلال وثائق ورسائل ومقابلات شخصية.

"محمد نجيب كان مشروع رئيس تم عزله خوفًا من ديمقراطية لم تكن قد نضجت في الوعي العسكري."
(من مقدمة الكتاب)

  1. نازي في القاهرة

يتناول هذا الكتاب قصة وجود بعض الشخصيات النازية في القاهرة بعد الحرب العالمية الثانية، والجدل حول علاقتها بالأنظمة العربية الناشئة، لا سيما في سياق الحرب الباردة. يُظهر ثروت قدرة تحليلية عالية في الربط بين السرد البوليسي والتاريخ السياسي، ويُقدّم المادة الأرشيفية بلغة جذابة دون المساس بدقتها.

  1. قصة كفاح ونجاح: عنان الجلالي نموذجًا

سيرة رجل الأعمال المصري العالمي عنان الجلالي، مؤسس سلسلة فنادق "هلنان"، والتي تحولت إلى إمبراطورية سياحية تمتد من مصر إلى أوروبا. في هذا العمل، يُبرز ثروت كيف يمكن لابن بيئة بسيطة أن يتجاوز كل الصعوبات عبر المثابرة، والإيمان بالذات، والرؤية الإستراتيجية. يتجاوز الكتاب كونه مجرد توثيق لحياة رجل أعمال، ليصبح دليلًا في ريادة الأعمال وثقافة النجاح.

البُعد الثقافي والسياسي في أعماله السيرية:

ما يميز سِيَر الدكتور ثروت هو أنها ليست محايدة، بل تتبنى رؤية نقدية واضحة تجاه الحدث التاريخي والسلطة والهوية. إنه لا يكتب من خارج الزمن، بل من داخله، محاورًا السياق، وكاشفًا تناقضاته. وهذا ما يجعل كتبه تحظى بقراءة مزدوجة: معرفية من الباحثين، وعاطفية من القراء العاديين.

تحليل أكاديمي:

  • ينتمي ثروت إلى تقاليد السرد الوثائقي التحليلي الذي يجمع بين التاريخ والصحافة والأدب.

  • يعيد من خلال السير طرح أسئلة كبرى حول المصير الفردي والسلطة والمجتمع.

  • يستخدم أسلوبًا جاذبًا يمكّنه من مخاطبة جمهور أكاديمي وعام في آنٍ واحد.

خامسًا: حوار الأديان والتسامح الثقافي

يشكّل مفهوم حوار الأديان والتسامح الثقافي أحد المحاور الجوهرية في المشروع الفكري للدكتور محمد ثروت، حيث لم يتعامل مع هذا الحقل بوصفه ملفًا ثقافيًا أو نشاطًا علاقاتيًا، بل باعتباره ضرورة حضارية للخروج من دوائر العنف والهويات القاتلة، والتأسيس لثقافة إنسانية جامعة. وقد ربط ثروت بين قيم الحوار والتسامح من جهة، وبين مقومات التنمية والنهضة من جهة أخرى، في قراءة تجمع بين الأبعاد الفلسفية، والتحليل الاجتماعي، والتجربة الميدانية.

بين النظرية والميدان:

ما يميز تجربة ثروت في هذا المجال أنه لم يكتف بالكتابة التنظيرية، بل قام بزيارات ميدانية إلى دول ذات تجارب رائدة في مجال التعددية الدينية والثقافية مثل إندونيسيا، ماليزيا، وسنغافورة، حيث التقى بقيادات فكرية، وزار مؤسسات حوارية، وأجرى مقابلات مع رجال دين وباحثين، وعاين نماذج التعايش على الأرض، ليبني بعدها رؤيته المتكاملة حول “التسامح بوصفه طريقًا للتنمية”.

مؤلفاته في حوار الأديان والتسامح:

  1. حوار الأديان... ماليزيا نموذجًا

في هذا الكتاب، يستعرض الدكتور محمد ثروت تجربة ماليزيا في إدارة التعدد الديني، ويحلل السياسات التي جعلت من هذا البلد أنموذجًا عالميًا في إدارة التنوّع، بعيدًا عن الصراعات الطائفية أو الاستقطاب العقائدي. يبرز الكتاب دور المؤسسات التعليمية والدينية، والمجتمع المدني، والإعلام، في ترسيخ مفهوم “المواطنة المشتركة”.

يرى ثروت أن ماليزيا قدّمت نموذجًا "لا يُذيب الفروقات، بل يُنظمها"، وأن النجاح الماليزي لا يرجع فقط إلى إرادة سياسية، بل إلى وعي ثقافي بالاختلاف كقيمة لا كتهديد.

"ليس المطلوب أن نتشابه، بل أن نتعايش. ليس أن نُخفي هوياتنا، بل أن نتقاطع حول القيم."
(من الفصل الأول: الأساس الفلسفي لحوار الأديان)

  1. التسامح طريق التنمية: قراءة في تجربتي إندونيسيا وسنغافورة

يمثل هذا الكتاب تطويرًا لرؤية ثروت، حيث يربط بين التسامح والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. يعرض كيف أن الدول التي انتصرت للتعددية استطاعت أن تحقق قفزات نوعية في التعليم، والسياحة، والاستثمار، بينما ظلت الدول التي تعيش الانغلاق والعنف حبيسة الأزمات البنيوية.

يقترح ثروت في هذا العمل تأسيس مراكز عربية لدراسة التسامح والتنمية، ويقارن بين النماذج الآسيوية والغربية، مركزًا على الإمكانات التي يتيحها السياق الإسلامي نفسه لخلق نموذج حضاري جامع.

رؤية ثروت الفكرية:

ينطلق ثروت من أن الصراع بين الأديان ليس حتميًا، بل هو نتاج تأويلات مغلقة وسياقات مشوّهة. ويرى أن الإسلام، بمرجعياته الكبرى، يُعدّ من أكثر الديانات انفتاحًا على فكرة التعدد، مستندًا إلى نصوص قرآنية وسنن نبوية تؤصل للتعايش.

كما يدعو إلى تحرير فكرة الحوار من الطابع الدبلوماسي الفولكلوري، ويطالب بربطها بالعدالة الاجتماعية، والتعليم، والمواطنة، والمساواة في الحقوق.

أثره الأكاديمي والثقافي:

  • تُدرّس كتبه في جامعات عربية وإسلامية ضمن مساقات مقارنة الأديان والتعدد الثقافي.

  • نال عنها تكريمات وشهادات تقدير من مؤسسات ثقافية ودينية، منها المركز الإسلامي في كوالالمبور.

  • شارك في مؤتمرات دولية حول التسامح الثقافي، أبرزها مؤتمر "التعددية ومستقبل الإنسانية" في جاكرتا (2021).

تحليل أكاديمي:

  • يمثّل ثروت اتجاهًا تجديديًا في الدراسات الإسلامية المقارنة، يتبنى أدوات تحليل حديثة دون التفريط بالمرجعية الأصيلة.

  • يُوظّف منهجية دراسات الحالة (case studies) في تقييم التجارب الدولية.

  • يعتمد خطابًا عقلانيًا، يزاوج بين التأصيل الشرعي والتحليل السوسيولوجي.

سادسًا: الحضور الأكاديمي والمهني الدولي

استطاع الدكتور محمد ثروت أن يُراكم تجربة أكاديمية ومهنية واسعة، أهلته لأن يكون من الشخصيات المؤثرة في المشهدين الجامعي والإعلامي على المستويين العربي والدولي. ولم يكن حضوره الأكاديمي محصورًا في قاعات المحاضرات، بل امتد إلى المؤتمرات الدولية، والهيئات الإعلامية، والمجالس التشريعية، ليجسد بذلك نموذج المثقف الجامع بين المعرفة والممارسة، وبين الخطاب النظري والموقف العملي.

التدريس الجامعي:

درّس الدكتور محمد ثروت في عدد من الجامعات المرموقة، جامعًا بين تدريس الإعلام الرقمي، وفلسفة الإعلام، والنقد الإعلامي، ومن أبرز محطات تدريسه:

  • كلية الإعلام – جامعة الأزهر: حيث ساهم في تطوير مناهج الإعلام الحديث، خصوصًا في مساقات الصحافة الإلكترونية وإدارة المحتوى الرقمي.

  • جامعة بني سويف: عمل فيها على ربط الإعلام بالأبعاد التنموية، من خلال مشروع إعلامي شبابي ميداني.

  • جامعة النهضة وجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا: ركز فيهما على إعداد طلاب قادرين على دخول سوق الإعلام الرقمي بكفاءة معرفية وأخلاقية.

  • جامعة القاهرة – فرع الخرطوم: أدّى فيها دورًا رياديًا في تعزيز التبادل المعرفي بين مصر والسودان، عبر إشرافه على مشاريع تخرج ودورات تدريبية.

  • الأكاديمية الدولية للهندسة وعلوم الإعلام: التي تُعد من أهم المراكز المتخصصة في تقنيات الإعلام، حيث ساهم في نقل المعرفة الرقمية من النظرية إلى التطبيق.

كان حضوره في هذه المؤسسات متجاوزًا لدور "المحاضر"، إذ عُرف عنه إيمانه بدور الأستاذ الجامعي كـ"مُربٍّ معرفي"، يزرع في طلبته الوعي النقدي والانفتاح على العالم.

المناصب الاستشارية والمهنية:

امتد نشاط الدكتور ثروت إلى العمل كمستشار إعلامي ومؤسسي، ومن أبرز مناصبه:

  • مستشار بمجلس النواب البحريني: حيث ساهم في تطوير الخطاب الإعلامي البرلماني، وإعداد دليل إعلامي للمجلس، يشمل آليات التواصل مع المواطنين والصحافة.

  • رئيس تحرير مجلة "النواب": وهي مجلة تهتم بشؤون العمل التشريعي، قام بإعادة هيكلتها لتصبح منبرًا للحوار الديمقراطي والتشريعي.

  • مستشار الجامعة الأهلية بمملكة البحرين: ساهم في تطوير قسم الإعلام وتدريب الطلاب على الصحافة الرقمية وتوثيق المواد الإعلامية أكاديميًا.

تظهر في هذه الأدوار قدرة ثروت على الجمع بين الوظيفة التعليمية والممارسة المؤسسية، وهو ما ينعكس في أسلوبه التعليمي الذي يوازن بين النظرية والتطبيق.

التقدير الدولي:

لم تمرّ مساهماته دون تقدير دولي، فقد شارك ممثلًا لمصر والعالم العربي في عدد من المنتديات والمؤتمرات، من أبرزها:

  • المؤتمر العالمي للإعلام الجديد – باريس

  • منتدى الإعلام الرقمي في الدار البيضاء

  • ندوة التعايش الثقافي – كوالالمبور

ونال جوائز وشهادات من مؤسسات أكاديمية وإعلامية تقديرًا لمساهماته في:

  • تحديث مناهج الإعلام في الجامعات العربية

  • ربط الإعلام بالتحولات الاجتماعية والسياسية

  • الدفاع عن قضايا الشعوب في المنصات الأكاديمية

تحليل أكاديمي:

  • يمثل الدكتور محمد ثروت نموذجًا للمثقف المهني، القادر على التأثير داخل الجامعة وخارجها.

  • تميز حضوره الأكاديمي بقدرته على تأطير الخبرة الإعلامية ميدانيًا داخل بنية تعليمية معرفية.

  • يُعد من أوائل من أدخلوا قضايا الإعلام الرقمي ضمن المناظرات التشريعية في الوطن العربي.

سابعًا: ثروت وقضية كوسوفا

يُعد دعم الدكتور محمد ثروت لقضية كوسوفا من أبرز مظاهر التزامه الإنساني والفكري، حيث لم يكن ذلك مجرد موقف إعلامي عابر، بل مشروعًا فكريًا متكاملاً تداخل فيه الجانب الإعلامي، الثقافي، والسياسي. تعرف الدكتور ثروت على القضية عام 2007، خلال فترة تأسيس جريدة "اليوم السابع"، حين كان رئيس المركز الثقافي الكوسوفي بالقاهرة، وشهدت تلك الفترة تصاعدًا في اهتمامه بالقضايا الوطنية للشعوب التي تسعى لاستقلالها وحق تقرير مصيرها.

التفاعل الإعلامي:

من خلال منصبه كرئيس تحرير، وأثناء عمله رئيسًا لقناة 25Tv التي أسسها الإعلامي الكبير محمد جوهر، قرر الدكتور ثروت إنتاج فيلم وثائقي يسلط الضوء على قضية كوسوفا من خلال سرد متكامل من حرب التحرير حتى الاستقلال.

شهد الفيلم توثيقًا شاملًا لعدة مناطق ومدن كوسوفا، حيث عُرض التراث الوطني، الأغاني الوطنية، الأزياء التقليدية، والعادات الاجتماعية، مع تركيز خاص على دور المرأة والشباب كقوة حية في بناء الدولة بعد الاستقلال.

لقاءات سياسية وثقافية:

ضمن وفد صحفي وسياسي متنوع، زار الدكتور ثروت كوسوفا، والتقى بالرئيسة آنذاك عاطفة يحيى آغا، التي وصفها بأنها "نموذج المرأة المكافحة، التي تحولت من نضال شبابي إلى قيادة سياسية رائدة، وأصغر رئيسة في أوروبا، مثال يحتذى للشباب في كل مكان."

واعتبر ثروت في أكثر من مقابلة ومقالة أن دعم قضية كوسوفا لا يتجاوز حدود السياسة إلى قيم العدالة الإنسانية، والحق في تقرير المصير، وهو موقف انعكس في أعماله الإعلامية والبحثية.

الأثر الثقافي والسياسي:

يُبرز الدكتور ثروت في تحليلاته أهمية الإعلام في تشكيل الوعي الدولي بقضية كوسوفا، ودوره في كشف الحقائق وتقديم سرد بديل عما تنشره الجهات الرسمية أو الإعلام الرسمي الدولي.

كما يعتبر أن القضية الكوسوفية نموذجًا حيويًا لفهم التحديات التي تواجه الشعوب الصغيرة في مساعيها للاستقلال، وتأثير الإعلام الرقمي في دعم هذه القضايا.

تحليل أكاديمي:

  • يعكس موقف ثروت اتجاهًا إنسانيًا عالميًا، يتجاوز الانتماءات الضيقة.

  • يُظهر كيف يمكن للإعلام أن يكون أداة لدعم الحقوق والقضايا العادلة.

  • يؤكد على ضرورة أن يكون الإعلام الرقمي منصة للحوار والوعي الدولي.

القصيدة

تشكل العلاقة العلمية والأدبية بين الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل والدكتور محمد ثروت نموذجًا حيًا للتفاعل المثمر بين الفكر والإعلام في خدمة القضايا الوطنية والقيم الإنسانية. إذ توحدت جهودهما في دعم قضية استقلال كوسوفا، حيث امتزج الفكر الأكاديمي بالعمل الإعلامي، والثقافة بالنضال السياسي، بما يعكس أبعادًا متعددة من التعاون والتكامل عبر المسافات الجغرافية بين القاهرة وبريشتينا. لتعزيز هذه الصورة، نقدم قصيدة للأستاذ الدكتور بكر إسماعيل، تعبّر بأسلوب شعري راقٍ عن عمق هذه العلاقة وأثرها في الحياة الفكرية والسياسية.

قصيدة: "روافد النيل وبريشتينا.. حوار فكر وحياة"

في ظلّ النيل وفي قلب البلقانِ
جاء نورُ الفكرِ يضيء في الأكوانِ

بكرٌ في كوسوفا، ومُحمّدٌ في مصرِ
يتبادلان العلمَ، والأملَ والبيانِ

حكايةُ وطنٍ لا تُنسى، ولا تُمحى
قضيةُ الحقِّ التي تُشعل الأحضانِ

في القاهرة يُكتبُ التاريخُ بحبرِ الوجدانِ
وفي بريشتينا يترددُ صدى الألحانِ

رابطُ الفكرِ والأدبِ بين يديهما
في ساحةِ العلمِ، يزهرُ الإحسانِ

ثروتٌ يُنيرُ دربَ الإعلامِ الرقميِّ
وبكرٌ ينسجُ سيرةَ النضالِ العميقِ

حوارٌ ثقافيٌّ، سياسيٌّ عميقٌ
يجمعُ بين نهرينِ، وقلبينِ حكيمِ

قصائدُ بكرٍ تروي قصصَ النضالِ
وأعمالُ ثروتٍ تشدو بفجرٍ بلالِ

يا من ترى في العلمِ سلاحَ الحريةِ
فلتعلم أن الوفاءَ في النضالِ جمالِ

ها هي كوسوفاُ في صدرِ الفجرِ تحيا
بفضلِ أصدقاءٍ صدقوا، ونطقوا الكلامِ

كوسوفا وأوربيتا، بريشتينا والقاهرةُ
تسكنها روحُ العلمِ في كلِّ مقامِ

إنها رسالةُ أخوةٍ لا تذبلُ
تتحدى الزمنَ، وتغني السلامَ

فلتكن يا صديقي رمزًا في الحياةِ
كالشمسِ تهدي الدروبَ والإشراقَ

التحليل الأدبي:

  • الوزن والقافية: القصيدة كتبت على بحر الكامل مع قافية موحدة (ـانِ، ـينِ، ـالِ)، مما يمنحها إيقاعًا موسيقيًا متزنًا ويُبرز جدية الموضوع.

  • الصور البلاغية: استخدم الشاعر صورًا استعاريّة قوية مثل "ظل النيل" و"قلب البلقان" ليربط بين مصر وكوسوفا جغرافيًا وروحيًا، مما يعكس وحدة الإنسان والثقافة رغم المسافات.

  • التكرار والتوازي: تكرار الأسماء الجغرافية (القاهرة، بريشتينا، كوسوفا، أوربيتا) يعطي القصيدة طابعًا شعبيًا ووطنيًا، كما يعزز الإحساس بالصلة الحية بين المكانين.

  • المضمون: يركز النص على فكرة التوأمة بين الرجلين في الفكر والنضال، ويُبرز دورهما في تعزيز قضية كوسوفا من منبر ثقافي وإعلامي.

  • اللغة: فصحى راقية قريبة من التراث الشعري العربي الكلاسيكي، مع بساطة تعبيرية تسهل وصول الرسالة وتُظهر العواطف الصادقة.

  • الدلالات: تم توظيف رموز وطنية وإنسانية (النيل، الفجر، السلام) لتعميق معاني الحرية والوفاء والصداقة.

خاتمة

تُجسد هذه القصيدة البعد الإنساني والوطني للعلاقة بين الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي والدكتور محمد ثروت، كما تعكس القيم العليا التي تجمعهما: الوفاء، والصدق في النضال، والتفاني في خدمة القضية الوطنية لكوسوفا. وتُعتبر شهادة أدبية حيّة على أن التضامن الفكري والإعلامي يمكن أن يشكل منبرًا قويًا لدعم الشعوب المستضعفة ونشر قيم السلام والعدالة، وهو ما يجعل من هذه الشراكة نموذجًا يُحتذى به في الممارسات الثقافية والسياسية العربية والعالمية.


محمد ثروت. الاعلام الرقمي. فلسفة الإعلام