رواد السوشيال في ميديا مصر: هل تنبأ باحث أكاديمي في 2016 بأحداث السابع من أكتوبر


"ما بين التنبؤ والتحليل: د. أحمد حسنين عبد المقصود يوضح خلفيات المقطع الذي أثار الجدل بعد هجمات 7 أكتوبر
بعد أكثر من عام ونصف على هجمات السابع من أكتوبر وما تلاها من تصعيد عسكري غير مسبوق في المنطقة، تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي في مصر مقتطفاً من أطروحة الدكتوراة لباحث مصري في الشؤون الإسرائيلية، كان قد كتبها عام 2016 في سياق مناقشة اتجاهات السلام في الأدب العبري الحديث. وقد اعتبر البعض هذا المقطع "تنبؤاً مبكراً" بما حدث لاحقًا، خاصة وأنه وصف بدقة احتمال انهيار الردع الإسرائيلي، ووصول فصائل المقاومة إلى قلب إسرائيل بطريقة مفاجئة ومربكة.
نورد في السطور التالية المقطع المتداول كما ورد في الأطروحة، وكما ورد أيضا في كتاب الباحث المصري الدكتور أحمد حسنين عبد المقصود أستاذ اللغة العبرية والدراسات اليهودية والإسرائيلية:
"إن أبرز ما تعكسه معظم الروايات العبرية التي تتناول الصراع الإسرائيلي – العربي هو أن استمرار الوضع على ما هو عليه سيؤدي إلى انفجار هائل لا محالة. لا يمكن التنبؤ تحديدا أين سيحدث هذا الانفجار، في الأراضي المحتلة، أم الضفة أو غزة؟! لكن ما لا ينبغي تجاهله، هو أن آلة الحرب الإسرائيلية الأكثر تقدما وتفوقا، وبما تتضمنه من أذرع استخباراتية، قد تصبح يوما ما على قدم المساواة مع ما يملكه الفلسطينيون من إيمان قوي بحقهم على هذه الأرض، ومع ما أصبحت فصائل المقاومة تملكه أيضا من قدرات عسكرية واستخباراتية قد تبدو للبعض بدائية جدا، لكنها قد تبهر العالم يوما بقدرتها على الوصول إلى تل أبيب دون أن تستوقفها قبة حديدية أو جنود لواء جولاني. وحتى إذا حدث هذا فإنه لن يجلب سوى المزيد من أنهار الدماء على الجانبين، وبالتأكيد ستكون هذه دماء المدنيين والنساء والأطفال، وذلك لأن الساسة وصناع القرار سيقبعون وقتها في مكاتبهم المجهزة تحت الأرض لمناقشة إطالة أمد الحرب، معتقدين أن طرفا ما سينتصر في النهاية، ولعل هذا ما يعزز فكرة ضرورة أن يعمل المجتمع العالمي وبأسرع ما يمكن على إقرار حل عادل للصراع يعيد الحق لأصحابه، ويحقن دماء الأبرياء."
هذا النص الذي كُتب قبل نحو سبع سنوات، عاد اليوم ليثير جدلاً واسعًا، دفع عددًا من الصحفيين والباحثين إلى طرح تساؤلات حول دقّته، وسياقه، ودلالاته. في هذا الحوار الحصري، نُجري مقابلة مطوّلة مع د. أحمد حسنين عبد المقصود، المقيم حاليا في الولايات المتحدة الأمريكية، لنفهم خلفيات هذا التصور، ونكتشف كيف يرى اليوم ما كتبه بالأمس، وما الذي تغيّر... أو لم يتغيّر.
بداية كيف استقبلت إعادة تداول هذا المقطع من أطروحتك لعام 2016، وربطه بأحداث وقعت بعد سبع سنوات؟
بصراحة، شعرت بمزيج من الدهشة والمسؤولية. المقطع كان جزءاً من تحليل علمي وأكاديمي في سياق أطروحتي للدكتوراه، وكان يهدف إلى قراءة المسارات المحتملة للصراع العربي – الإسرائيلي بناءً على معطيات سياسية وأمنية وثقافية في المقام الأول آنذاك. لم أكتب بدافع التنبؤ أو التنجيم، بل انطلقت من تحليل بنيوي للواقع، من خلال قراءاتي لعشرات الروايات السياسية العبرية وللصحف العبرية التي كانت محور دراستي للدكتوراة. وعندما أعاد البعض تداول الفقرة معتبرين أنها "نبوءة"، لم أُرِد أن أركب الموجة، لأن ما حدث ويحدث الآن هو مأساة إنسانية قبل أن يكون حدثاً سياسياً. لذلك، أعتبر أن الأهم من الجدل حول التوقع هو العودة إلى جوهر ما قلته: أن استمرار الجمود يولّد الانفجار.
هناك من اعتبر أن تحذيرك من "قدرة فصائل المقاومة على الوصول إلى تل أبيب" فيه تبنٍّ لخطاب هذه الفصائل، بم ترد؟
أرفض هذا التأويل تماماً. لم يكن الهدف من عبارتي الإشادة بفعل عسكري، بل الإشارة إلى أن توازنات القوى لا تُقاس فقط بالمعدات أو التكنولوجيا. التاريخ يعلمنا أن الحروب لا تُحسم دائماً لصالح الطرف الأقوى تكنولوجياً. عندما تحدثت عن احتمالية وصول فصائل المقاومة إلى تل أبيب، كنت أحلّل تطور أساليب المقاومة غير المتكافئة، والتي تعتمد على عنصر المفاجأة، واستغلال الثغرات الأمنية، وإرادة القتال. ومن جهة أخرى، كان السياق التحذيري واضحاً: إذا استمر الجمود السياسي، فسيكون الثمن دماء مدنيين من الجانبين. هذا ما ركزت عليه، ولا أزال أؤمن به.
هل ترى أن ما كتبته عام 2016 يمكن اعتباره توصية لصناع القرار؟
بشكل غير مباشر، نعم. كنت أدعو إلى ضرورة الخروج من منطق "إدارة الصراع" إلى منطق "حل الصراع". هذه ليست أمنية مثالية، بل ضرورة استراتيجية. حين يفشل السياسيون في إيجاد حل عادل، يتم ملء الفراغ بالحرب. والمفارقة أن كل الأطراف تظن أنها ستربح الحرب، لكن النتيجة تكون غالباً دماراً متبادلاً، خصوصاً للمدنيين. لذلك، رسالتي كانت ولا تزال أن الحل العادل هو الضمان الوحيد للأمن والاستقرار.
البعض قرأ في مقطعك تعاطفاً إنسانياً، بينما آخرون ركزوا على الجانب الأمني، كيف ترى ذلك؟
القراءة الإنسانية كانت مقصودة ومتعمدة. حين كتبت عن "أنهار الدماء"، و"دماء النساء والأطفال"، كنت أصر على ألا يضيع الإنسان وسط التحليلات الاستراتيجية. نعم، درست السياسة والأمن، لكني أؤمن أن جوهر السياسة يجب أن يكون الإنسان. كنت أحاول أن أقول: مهما كانت وجهات النظر، لا يجوز أن يدفع الأبرياء ثمن العجز السياسي. هذه ليست رومانسية، بل موقف أخلاقي.
ما رأيك في تداول الباحثين والصحفيين على السوشيال ميديا لمقاطع من كتبك وتحويلها إلى "ترندات"؟
لدي موقف مزدوج. من ناحية، يسعدني أن هناك من يقرأ ويعيد اكتشاف ما كتبت، فهذا يؤكد أن للمعرفة حياة تتجاوز زمان كتابتها. لكن في المقابل، أخشى من أن تُجتزأ النصوص من سياقها، وتُستخدم في إطار دعائي أو تأويلي يخدم مواقف سياسية آنية. الأمانة العلمية تقتضي قراءة النص في سياقه الأكاديمي، ومراعاة اللحظة الزمنية التي كُتب فيها، خاصة في مواضيع معقدة مثل الصراع العربي الإسرائيلي.
هل تعتقد أن المؤسسات الأكاديمية والسياسية تقرأ مثل هذه التحذيرات؟
للأسف، في كثير من الأحيان، لا. النخبة السياسية تميل إلى الإنكار والتأجيل، والنخبة الأكاديمية غالباً ما تُهمّش إن لم تواكب الأجندة الرسمية. لكن هناك استثناءات، وهناك من قرأ أطروحتي وناقشني بجدية، سواء في مصر أو في دوائر بحثية بالخليج. أحياناً يكفي أن يسمعك صانع قرار واحد ليبدأ التغيير. لذلك، أؤمن أن على الباحث ألا ييأس، فصوت المعرفة قد يكون خافتاً، لكنه عميق الأثر.
لو طُلب منك اليوم تحديث هذا التحليل، ماذا كنت ستضيف بعد 7 أكتوبر؟
كنت سأضيف أن ما جرى يؤكد خطورة التمادي في تجاهل المطالب الإنسانية والسياسية العادلة. كنت سأشير إلى تآكل الردع الإسرائيلي، ليس فقط عسكرياً، بل أخلاقياً أيضاً، أمام أعين العالم. كما كنت سأتناول كيف أن الإعلام الرقمي وفّر لفصائل المقاومة أدوات جديدة لتأطير روايتها، مقابل فقدان إسرائيل للتفوق الإعلامي الذي طالما امتلكته. لكنني كنت سأشدد أكثر على الجانب الإنساني، لأن الكارثة التي حلّت بغزة والضحايا المدنيين من الجانبين، أظهرت أن الزمن لم يعد يحتمل الحرب كلغة تفاهم.
أخيراً، ما رسالتك للقراء الذين تداولوا مقطعك بإعجاب أو دهشة؟
أشكر كل من قرأ وتفاعل، وأدعو الجميع إلى أن يتحول الإعجاب أو الدهشة إلى بحث ومعرفة ووعي. لا تكتفوا بمقطع بل عودوا للنص الكامل، للسياق، للفكر وراء الكلمات. لأن القضية ليست في "توقع حدث"، بل في قراءة منطق الأحداث قبل أن تنفجر. وإذا ساهم ما كتبته في دفع أحدهم للتفكير أو التشكيك أو الحوار، فأنا راضٍ تماماً.
كنت من أوائل الأكاديميين الذين ركزوا على تدريس العبرية في الجامعات المصرية من منظور نقدي وثقافي، كيف انعكس هذا التوجه في كتاباتك وتحليلاتك مثل ذلك المقطع الذي أثار الجدل؟
صحيح، منذ بداياتي في تدريس العبرية بمصر، كان هدفي هو تجاوز القوالب التقليدية التي تركز فقط على الترجمة أو تعلم اللغة لأغراض أمنية أو سياسية. سعيت إلى أن يفهم الطالب كيف تُبنى السرديات داخل المجتمع الإسرائيلي، وكيف تنعكس هذه السرديات في الرواية العبرية، الإعلام، والخطاب الأكاديمي. المقطع الذي أثار الجدل ليس إلا نتاجاً لهذا التوجه: قراءة العبرية ليس كلغة فقط، بل كبوابة لفهم عقل الآخر، ومآلات تفكيره، وتحولات مجتمعه. من يفهم اللغة، يفهم بنية الخوف، الطموح، والدعاية، وهو ما يُمكِّن من تقديم تحليل أكثر دقة، بعيد عن التهويل أو التبسيط.
درّست اللغة العبرية لاحقاً في الإمارات، في سياق مختلف كلياً بعد توقيع اتفاقيات إبراهام، كيف انعكس هذا التحول على نظرتك لتعليم العبرية، وهل أثّر على تحليلك للواقع؟
بلا شك، تجربة التدريس في الإمارات بعد توقيع اتفاقيات إبراهام كانت نقلة نوعية. لأول مرة، لم يكن تعلم العبرية مقصوراً على الأمن أو الصحافة، بل صار مدخلاً للتفاعل مع الإسرائيلي بشكل مباشر. هذا وفر لي فرصة ثمينة لرصد كيف يرى العرب العاديون إسرائيل من الداخل، وكيف يتعامل الإسرائيليون مع هذا الانفتاح. هذه التجربة أثرت كثيراً على تحليلي للصراع، إذ تأكدت أن التعايش الظاهري لا يلغي التوترات العميقة، بل قد يؤجلها. وهذا ما يجعل الدعوة إلى حل عادل أكثر إلحاحاً، لأن التقارب الاقتصادي أو الدبلوماسي وحده لا يكفي إذا لم يُبنَ على فهم متبادل واعتراف حقيقي بالحقوق.
هل أثّرت تجربتك في تعليم العبرية للمجتمعات غير العربية – كما في الولايات المتحدة – على نظرتك للصراع وسردياته؟
نعم، بشكل كبير. في الولايات المتحدة، درست العبرية لجمهور متنوع: طلاب جامعيين، دبلوماسيين، وحتى معلمي لغات. وكان التحدي الأكبر هو كسر الصورة النمطية لدى بعض الأمريكيين بأن كل من يدرس العبرية مؤيد لإسرائيل بالضرورة، أو أن كل عربي معادٍ لها تلقائياً. هذا الوعي عزز قناعتي بأن اللغة أداة مقاومة أيضاً، وليست فقط وسيلة تفاهم. عندما يُدَرّس العبرية ضمن سياق نقدي، يمكن استخدامها لتفكيك البروباغندا، ومساءلة الرواية الرسمية، وهو ما فعله المقطع الذي كتبته عام 2016: قرأته العبرية لا لكي أتبناها، بل لأفكك منطقها وأكشف مآلاتها.
هل تعتقد أن تدريس العبرية في العالم العربي يجب أن يُفصل عن الصراع، أم يُربط به؟
لا أؤمن بالفصل التام، ولا بالربط الأيديولوجي. تعليم العبرية في العالم العربي يجب أن يكون واعياً، لا دعائياً ولا معادياً بشكل أعمى. نحتاج لتدريس اللغة بمعايير أكاديمية، لكن بوعي ثقافي وسياسي. من دون فهم الصراع، سيتحول تعليم العبرية إلى نشاط ميكانيكي فارغ من المعنى. ومن دون التخصص والحياد العلمي، قد ينزلق إلى شعارات سياسية فارغة. أنا أنادي بـ"التعليم النقدي": أن يفهم الطالب اللغة، ويقرأ الأدب، ويتابع الإعلام، ثم يُكوّن رأيه الواعي، لا المفروض عليه.
في ظل الأحداث الأخيرة، هل تعتقد أن مستقبل تعليم اللغة العبرية في المنطقة سيتأثر؟
بلا شك. هناك موجة من إعادة التقييم، سواء في الخليج أو مصر أو غيرها. البعض قد يدعو لتقليص تعليم العبرية كرد فعل غاضب، والبعض الآخر قد يطالب بتوسيعه بهدف "فهم العدو". لكني أعتقد أن الاستجابة الأذكى هي في تطوير تعليم العبرية ضمن مسارات تحليلية وثقافية جادة. اللغة ليست عدواً ولا حليفاً، بل وسيلة. والسؤال الأهم هو: كيف نُعلّمها؟ ولماذا؟ إن مستقبل تعليم العبرية يجب أن يكون مرتبطاً بمشروع وعي عربي جديد، يقرأ إسرائيل من الداخل، لا فقط من الأخبار