خطاب (1) : هنا القاهرة .. وروح المكان في أشعار عبد الفتاح امين
د . رضا شحاتة أبو المجد
هناك مدن عربية تحتفي بالشعر وتلوح له بالمناديل البيضاء .. ولكن القاهرة كانت تتنفس الشعر وتتكحل به في السبعينيات من القرن الماضي . جاء الشاعر عبد الفتاح أمين إلى القاهرة الخالدة ليدرس الفنون والتربية في منتصف السبعينات .. مسكوناً بالأدب وهاجس الشعر.. وكان للقاهرة فضل الربيع على شعره وبصماتها ما تزال واضحة على إيقاعاته ولغته الشعرية .. فالانتقال إلى مدينة القاهرة للدراسة كانت نقله صعبة ومدهشة وهامة بالنسبة لتطوره الشعري .. لقد صقلت القاهرة أحاسيسه وصوره الشعرية وحررته من خجل القرية وغبار اللغة العتيقة العالق بالمعنى .
هكذا الشاعر الحقيقي لا يأتي بالصدفة .. فالمصادفة قد تحدث علي طاولة القمار ولكنها لا تحدث في كتابة الشعر .. الشعر يا صديقي لا علاقة له بأوراق اليانصيب .. والموهبة لا تهب من السماء بالحظ وبدون مقدمات .. إنما هي صبر وجهد وجهاد وفيض من عند الله . أعرف أنك تعشق القاهرة بالغريزة يا عبد الفتاح .. لكن لا أعرف سر كل هذا الغضب من المدينة في أشعارك ؟ .. هل الشاعر الرومانسي في صدام دائم مع المدينة حيث الضوضاء والزحام والضجر .. هل رمزيتها تذكرك بالعالم المادي الطارئ المصاب بفقدان الذاكرة .. ربما .
يقول الشاعر في قصيدة " ولم يأت بعد المطر " وإذا المدينة ... عارية ترتجف .. شفاها حزينة .. جمالها .. مصروع .. في الوحل والطينة.. قلبها .. مــوجوع .. سمــعت الدنـيا أنينه.. كل شــــيء .. كـــان زيف .. الحب .. والعـــشق .. زيف.. الشرف .. والكرامة .. زيف ... المدينة عند الشاعر عبد الفتاح أمين هي مكان للحزن والضوضاء والزيف .
وهذا الموقف من المدينة يتكرر مع الكثير من المبدعين وهو يذكرني بمقطع جميل من رواية "فساد الأمكنة" حيث يقول الكاتب صبري موسي : "إن مئات الخطايا الصغيرة التي نرتكبها بسهولة ويسر في المدينة ضد أنفسنا وضد الآخرين تتراكم على قلوبنا وعقولنا ثم تتكثف ضبابا يغشى عيوننا وأقدامنا فنتخبط في الحياة كالوحوش العمياء.
فالمدينة زحام، والزحام فوضى وتنافس وهمجية." لقد أدرك هذا الشاعرعندما قدم إلي القاهرة للدراسة أنه علي أبواب قاموس شعري جديد .. ففي القاهرة تغير كل شيء .. اللغة غير اللغة .. الكلام أصبح له طبقات سفلية من الدلالات المتعددة وتأويل مجازي مخالف للمعني الحقيقي .. الحياة في هذه المدينة متغيرة متحركة تأخذ كل يوم شكل جديد .. الناس فيها متحولون ومعجونين بماء العفاريت .
جاء عبد الفتاح إلي القاهرة حاملاً في مخيلته نموذج القرية الإنساني باحثاً عن الزمان الحاني ليصطدم في السبعينات ببرود المدينة .. التي تشبه الزهور الصناعية بألوانها الفاقعة .. أو مثل المرأة اللعوب التي تلطخ وجهها.
بالألوان والمساحيق الكاذبة.. وكتعبير عن تلك النظرة الغاضبة يقول الشاعر في تقابل بين الماء الطاهر والمدينة في قصيدة " يوم يأتي المطر ". والمدينــة تـغتـسل... من وحلها تـغتسل... من عريها تـغتسل... من عهرها تغتسل... يــوم يــأتِ المـطر. وكأن القرية في وجدان عبد الفتاح وفي خياله هي غيمة المطر .. وهي الست المحتشمة في ملابسها وعواطفها لا تفصح ولا تتكلم عن حقيقة مشاعرها ..! وعندما تشكو أرواحنا من الخواء .. يتحدث عبد الفتاح أمين عن الريف والقرية والحارات القديمة ذلك المكان الحميم الذي تسكنه الذكريات البريئة يتحدث برومانسية ورؤية مختلفة .. فحجرته في بيت الطفولة الذاخر بالعاطفة والمشاعر يثير الخيال وأحلام اليقظة .. ويستدعي الحنين إلي فطرة الطفولة الصافية .
يقول الشاعر في "قصيدة حنين وأنين" آه يا حارتي .................... وشباكي المطل على المساء .. ولؤلؤتان .. بين قلبي ووسائدي .. ممـلوءتان ضــــياء .. وكفــان صــــــغيران.. يجمعان الندى ينابيع صفاء ... يا صديقي عبد الفتاح .. أتينا إلي القاهرة بحلم بريء ولكن عندما يظلل الزيف وجه الحياة في المدينة .. وفي هذا المناخ الذي يتأرجح فيه الضمير بين المتناقضات .. فإن التعبير عن النفس صعب .. وعندما تسكن المشاهد البصرية والسمعية للحياة في القاهرة بالتعابير الشعرية .. فإن هذا يعني أن روح الحياة موجودة في تلك الصور المجازية .. ويعني أيضاً أن الكمال المتسع للإيقاع وعلاقاته الزمانية في تفاصيل السرد الشعري هو الجمال الرائع الذي يتنفس إيقاع الحياة ..هذا الإيقاع المتحول والمتغير الذي يجلب لعالم الشعر شيئاً جوهرياً لا يمكن الاستغناء عنه .. وهو طاقة الصدق والراحة .. والانسجام الموسيقي الذي ينظم اللحظات الزمانية الهاربة في الذاكرة .. ويولد فينا المعنى الحي .. الذي نبحث عنه ونعانقه في تجليات الوجود .