الأربعاء 16 يوليو 2025 04:31 مـ 20 محرّم 1447هـ

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

ثقافة

قراءة أخرى لحكاية حراجي وفاطنة

قرأتها: نهى جلال

 

فاطنة وحراجي.. قصة حب خلّدها الخال، الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، من خلال "جوابات" يتبادلها الزوجين من حين لآخر.. لم تكن مجرد حديث يتبادله زوجين يعشق كلاهما الآخر وتفصل بينهما مئات الأميال. كان الأبنودي من -خلالهما- يحكي عن العشق والوطن في الوقت نفسه. وكذلك كان يحكي عن رجل ترك عائلته من أجل مستقبله.

اختار حراجي الذهاب لتشييد السد العالي، وترك عائلته الصغيرة، فاطنه زوجته، وطفلاه عزيزة وعيد في قريتهم "جبلاية الفار". اكتفى بإرسال واستقبال الجوابات فقط، لم تسنح له الفرصة أن يلتقي عائلته منذ تركهم. لم يلتق الزوجين في نهاية القصة.

لم أدري حقاً ماذا كان يدور بخلد الخال عندما قرر أن يسرد تفاصيل تلك العائلة؛ أحياناً وأنا استمع لتلك الجوابات بصوته أحاول أن أصل  إلى اللغز الذي خبأه بين سطوره.. تدور الأسئلة في رأسي: هل كان يبعث بتلك الجوابات لأجيال؟.. هل كان يريد أن يخبرنا بأن حراجي عندما فاضل بين مستقبله وأسرته، فاختار مستقبله؟ هل قصد وسط حديثه أن ندرك أنه أحياناً لا يوجد مكان للعاطفة إطلاقاً؟! أم كان يبعث برسالة أخرى محتواها أن الرجل الشرقي إذا ضمن وجود حبيبته يرتاح ويسعى لتحقيق أهدافه بعيداً عنها؟.. أم كان يحدثنا صراحة -كنساء- أن نحذر من ذلك الجزء الأناني الكامن داخل الرجال ولا نأمن لكلامهم المعسول؟.

لهذا الحين لم أصل لإجابة.. في بعض الجوابات كنت ألعن حراجي على حبه لذاته أكثر من حبه لفاطنه، على الرغم من أنه في بعض الأحيان كان يجيد لعب دور السند والأمان.. عندما كانت تلّح عليه بالعودة أو استدعائها لتعيش معه، كان يدعمها ببعض الكلمات فقط، كلمات داخل ظرف مثل "مسيت الدمعة في حزنك بإيدي مسيت الدمعة اللي ف حزنك ماعرف خدتك بحضيني ولا أنتي خدتيني ف حضنك"، وعندما كانت تشكو له لوعة الفراق والاشتياق وتُلقي على مسامع بسطاوي كلماتها الممزوجة باللهفة والحنين والاحتياج "في الليل يا حراجي بتهف عليا ماعرف كيف هففان القهوة على صاحب الكيف"، لم يُحرك ساكناً، كان يؤكد عليها دائماً أن تسيطر على الحنين ببعض الكلمات مثل "الشوق الزايد ع الحد دا ممنوع.. سيبك من غربة جوزك واستنبهي للموضوع"، ويختم عبارته بـ"ده أنتي يا فاطنه نبيهة".

أتعجب من قسوة حراجي حقيقة، ومن استسلام فاطنه للبعد؛ عندما كان يلمح بين كلماتها شيء من التمرد ونفاذ الصبر كان يُلقي على مسمعها كلامه المعسول لكبح جماحها سريعاً "مشتاق ليكي شوق الأرض لبل الريق.. شوق التعبان للنسمة لما الصدر يضيق.. مشتاق"، كانت تتراجع فوراً عن موقفها وتختار راحته.

رحل حراجي، وترك فاطنه بين جدران الدار، مكتفياً بإرسال نقود وكسوة وبعض الجوابات. لم أتحير من موقف حراجي بقدر حيرتي من فاطنه.. لم كل هذا العناء يا سيدتي؟ ماذا كنتي تنتظرين بعد مرور كل تلك السنوات ما بين وعود بالية وكلمات معسولة وأنانية مفرطة؟!  هل كانت مدركة حينها الفرق بين الحب، والتنازل، والتضحية؟؛ فرق كبير بينهم، ولكن يبدو أن اختلط عليكي الأمر.

"الحب عطاء متبادل"، ماذا تبادلتي معه لتهبيه كل هذا التسامح والحب والصبر والاحتمال؟  بعض خطابات؟ كلمات؟؛ حتى التضحية أيضاً لها قواعد. ضحيتي بسنوات من عمرك، ومسؤولية، ومواجهة صعاب. أين هي حقوقك كزوجة؟. تنازلتي وتجردتي من جميع حقوقك، واستسلمتي لذلك الرجل الذي "يغوى الشمش أكتر من سهر الليل".

عندما كان يلقبك بـ"الجوهرة المصونة والدرة المكنونة" كنتي تستسلمي للفراق. كم من المرات التي لعنتي فيها تلك المسافات؟ وأسوان؟ والسد؟؛ عندما كنت استمع للجوابات كنت أرى أن نبرة صوت الخال في جوابات حراجي صلبة.. قوية.. متحمس للسد وترابه.. والديناميت.. والأسطى بخيت.. والبشمهندس طلعت.. وجميع الأشياء إلا أنتي؛ وكانت نبراته تتحول للعطف والحنان واللهفة والانكسار وهو يتحدث بلسان فاطنه المنتظرة، الملتاعة بنار الشوق.

في نقاش مع صديق من محبي الأبنوي تطرقنا لحراجي وفاطنة قليلاً؛ تنهد رفيقي في ارتياح وهو يقول "أنا عاوز ألاقي واحدة زي فاطنه دي.. مش هبقى محتاج أي حاجة تانية من الحياة"، ابتسمت حينها، وتأكدت أن الخال أنجب من تلك الجوابات نماذج عديدة لحراجي، ولكن في هذا الجيل من الصعب أن تقابل فاطنه أخرى، تلك التي تتنازل عن حقوقها وتكتفي بكلمات معسولة، وتطير فرحاً عندما يلقبها حبيبها بالجوهرة أو الدرة.

أردت أن أقبّل يد الخال، اعتقدت أنه كان يحذرنا من الوقوع في نفس خطأ فاطنه، وأن يحث جميع الرجال ألا يقعوا في نفس خطأ حراجي.. كم تمنيت أن تسنح لي الفرصة أن أجلس قبالته، ويُلقي على مسامعي الحكايات، ويأخذني من يدي في النهاية ليُطلعني على السر.

حراجي القط فاطنة الأبنودي جوابات السد العالي